الإبداع الدرامي في الصعيد
د.
محمد عبد الله حسين (1) كان كتابي " النقطة المتحولة في الإبداع الدرامي في الصعيد " والذي أصدرته منذ سنتين تقريبا ، أول دراسة علمية متكاملة - على حد علمي - لفتت الأنظار إلى الإبداع الدرامي في صعيد مصر ؛ فقد كانت بمثابة محاولة الكشف عن جماليات هذا الإبداع على مستوى التشكيل الفني راصدة في الآن ذاته مدى التطور الذي طرأ على كتابات مبدعي الدراما في الصعيد ، ومحاولات المبدعين الدؤوبة - على اختلاف مشاربهم - في تجريب أشكالا مسرحية غير تقليدية . وعلى الرغم من سيرهم بخطوات متأنية نحو التجريب بيد أن بعضهم استطاع أن يحقق المعادلة الصعبة التي ترتبط بالاتصال والانفصال فى آن واحد . ومن هنا جاءت أعمالهم متميزة كشفت عن خصوصية هذا الإبداع من خلال تجريب أشكال فنية حديثة لم تستطع أبداً - هذه الأشكال الحديثة - أن تطمس هوية هذا الإبداع ، بل استطاع كاتب مثل درويش الأسيوطي أن يؤكد هذه الهوية وهذه الخصوصية من خلال مشروع درامي متكامل الرؤية واضح الهدف وما ثلاثية " أبو عجور " ، إلا دليل وتأكيد على أصالة هذا الإبداع وقدرته على أن يمنح من معين ثر لا ينضب أبداً وفى الوقت ذاته يمد ذراعيه متصلاً بأشكال المسرح الغربي الحديث ولعل مسرحية " كيد البسوس " تؤكد ذلك . لم يكن درويش الأسيوطي فقط هو محقق هذه المعادلة بل إنها تحققت - بنسب متفاوتة- في أعمال محمد سيد عمار ( ملك العرب - ثنائية الحلم والسقوط - قبل أن يموت الملك ) وقد حصل العملان ( الأول والثاني ) على جوائز نقدية مهمة على مستوى عالمنا العربي . وكذلك كانت مسرحية محمد عبد المنعم زهران " أشياء الليل " متجهة في الطريق نفسه . وحصلت أيضا على جائزة متميزة . ولم يكن هذا الاتجاه هو الاتجاه السائد فقط بل تجاور مع كتابات في مجملها جيدة وإن كانت تظل تنحو مناحٍ تقليدية على مستوى التشكيل الدرامي . وفى خلال سنتين مرتا على إصدار الكتاب ظننت - رغم التواصل مع مبدعي المسرح - أن قريحة كتاب الدراما قد نضبت وأنهم ققد توقفوا عند النقطة التي انتهى إليها الكتاب . وظللت منتظراً متلهفاً لـ أعمال إبداعية مسرحية جديدة تلفت إليها الأنظار ؛ فقد يمكنني في يوم من الأيام أن أضيف جزءاً ثانياً للكتاب . وفى ظل الرغبة الملحة تجاه متابعة الإبداعات الدرامية . تفضلت أمانة مؤتمر إقليم وسط وجنوب الصعيد لهذا العام 2004 بإرسال مجموعة من الإبداعات المسرحية المتنوعة من أجل أن أقوم بعمل دراسة عنها . وبقدر فرحتي بهذه الأعمال بقدر صدمتي في إنني لم أجد فيها ضالتي التي كنت أنشدها من أجل استكمال ما قد بدأت . ولكن لا يعنى هذا أن هذه الأعمال لا ترقى لمستوى النقد فهي أعمال في مجملها جيدة وإنما لا ترقى لمستوى المشروع أولاً : لأنها غير كافية وثانياً : لأن معظمها قد تناولته في دراسات من قبل وللأمانة يجب أن استعرض سريعاً عناوين المسرحيات التي وصلتني : ( الناعسة ) لمحمد سيد عمر وقد قمت بعمل دراسة عنها من خلال مؤتمر الإقليم في عام 2001 و ( الملونون ) لطنطاوى عبد الحميد وقد قمت بعمل دراسة عنها خلال مؤتمر الإقليم في عام 2002 ، ومسرحيات للأطفال ؛ ( ثلاث مسرحيات ، من تأليف محمد صديق وهى ( دبرنى يا وزير - الأسد الطائر - الذئب الغريب - أسطورة الثعلب )، وواحدة لرفاعي سعد الله بعنوان : مؤامرة متعالب . وقد آثرت أن تكون هذه المسرحيات ضمن دراسة كبيرة عن مسرح الطفل في الصعيد أرجو أن يوفقني الله في إتمامها . أما الأعمال الباقية : فهي دياب ملكاً لـ " محمد نصر يس " وهى عبارة عن مواقف درامية مأخوذة من السيرة الهلالية ، وفى ظني أن مؤلفها لم يقم إلا بالتقطيع الذي تغنى به رواة السيرة كما هو ولم يكن للكاتب أى فضل فيه سوى نسبة الأشعار إلى شخصيات السيرة المختارين داخل النص كما أوردها الراوي الشعبي اللهم إلا بعض التدخلات الحوارية القليلة من أجل ربط الأحداث فآثرت ألا أتعرض لهذه التجربة حتى لا نظلمها لأنها تبقى وحيدة لا يربط بينها وبين الأعمال الأخرى رابط فني أو جمالي ومن ثم تركتها - مؤقتا - لحين ورودها في سياق دراسات أخرى . ويتبقى أمامي ثلاثة مسرحيات : ميلودراما " محمد عطاف " ، " الخروج إلى القلعة " لعلاء الدين رمضان وقد ضمها عنوان واحد وهو " سمكة ظامئة " ، " المزعجون " لعشم الشيمى فقررت أن تكون هذه الأعمال هي موضوع الدراسة التي بين أيديكم للأسباب الآتية: 1) أنها تمنحني إلقاء الضوء على فن " المونودراما " عن كتاب الصعيد وهم قليلوا الإنتاج لهذا الشكل . 2) استخدام الفضاءات الدرامية والنصية بوصفها تقنية حديثة على مستوى الرؤية والتشكيل الدرامي . 3) محاولة أصحابها تجريب شكل إبداعي مختلف مما أصاب المعادلة - التي أشرت إليها- بخلل كبير يحتم عليا الوقوف في مواضعه حتى لا تصاب الكتابة الدرامية في الصعيد في مقتل . 4) الدراسات النقدية المصاحبة لهذه الأعمال وهى تعكس نوعاً من عجز النقد عن مجاراة الإبداع وترسخ لما يمكن تسميته بالنقد التبريري . 5) إن هذه الأعمال يمكن الاستفادة منها - بشكل أو بآخر - أثناء عملية رصد التحولات الدرامية عند مبدعي الصعيد . 6) التجريب هو العامل المشترك بين هذه الأعمال . ولذا كانت هذه الدراسة ... - 2 - يعرف معجم المصطلحات الدرامية والمسرحية فن المنودراما Monodrama أو دراما الممثل الواحد بأنها ، " المسرحية المتكاملة في ذاتها ، والتي تتطلب ممثلا واحد - أو ممثلة - كي يؤديها كلها فوق الخشبة أمام المتفرجين " (1) وهذا يتطلب قدرات خاصة من الممثل ومن المخرج على السواء لأن هناك قاعدة فنية تقول : كلما قل عدد الممثلين كلما ازدادت صعوبة العمل الدرامي على مستوى التأليف والتمثيل والإخراج والتلقي أيضا . لذا فهذا الفن ، فن صعب إعدادا وتنفيذا ، وتليا ، ومن ثم يتطلب قدرات خاصة من جميع أطراف العملية الإبداعية المسرحية وقد حاول علاء رمضان في مونودراما ، " محمد عطاف " أن بوصفة أحد أهم أطراف العملية الإبداعية - مونودراما تعكس تطورا - بشكل أو بآخر - على مستوى الرؤية وعلى مستوى التشكيل االدرامي بما يشتمل عليه من فضاءات درامية وفضاءات نصية . عنون " علاء الدين رمضان " المونودراما بعنوانين : عنوان خارجي وآخر داخلي ، وهذه أول تقنية في شكل الكتابة تعطى النص انفتاحا على رؤى متعددة بداية من التناقض الواضح الذي يحمله العنوان الخارجي ( سمكة ) ( ظامئة ) مما يعطينا شعورا بأن ما سنقرأه مختلف وغير متوقع في آن واحد . ومما يعمق هذا الإحساس ما نص عليه عنوان المسرحية الثانية ( الخروج إلى القلعة ) وهو عنوان داخلي يتعانق مع العنوان الخارجي( سمكة ظامئة ) أيضا وجاء العنوان الخارجي إطاراً للمسرحيتين المنفصلتين المتصلتين في آن واحد !! مع ملاحظة أنه جاء بصيغة المفرد ( سمكة ) وأيضا في صورة " نكرة " غير معرفة لتعكس العديد من الدلالات التي ستتكشف لنا بمجرد الدخول إلى عوالم النصين . يبدأ علاء " رمضان " منودراما " محمد عطاف " حيث يصفها بأنها تجربة واقعية وهذه - فى ظني - أول سقطة فنية على مستوى الكتابة فمن المفترض إننا أمام تجربة فنية - أما نعتها بأنها واقعية " حدثت باالفعل " أو خالية أو ما شابه يعطى المتلقي إحساسا بتعاطف ما مع البطل قبل قراءة " النص " وهذا يمثل إشكالية في عملية التلقي تجعل النص يحمل دلالة تعينية محددة للمعنى . لم يكتف علاء رمضان بذلك وإنما اتبع العنوان بمفتتح " لمحمد عطاف منزلة عظيمة في النفس ، لكن لجرحه وانكسار أحلامه أخدود وهواجس سلطتها اعتمرت منعطف الروح .......... إنها انهيار الحلم الوحيد ، الذي رفع من فوق سراج العمر " (2) . ليس ذلك فحسب ، بل أتبع " المفتتح " بـ " وثيقة " عبارة عن رسالة من " محمد عطاف " إلى صديقه علاء رمضان !! مثلت هذه الوثيقة مع المفتتح بجانب توصيف العنوان جزءا مهما من بنية النص على الرغم من أن المؤلف قد نعت هذه الوثيقة بأنها خارج النص المسرحي فكانت الوثيقة - تجاوزا - بمثابة " التناص " ولكنه تناص مباشر فسر ما يرمى إليه النص .. قبل دخول ( القارئ ) إلى عالم النص ربما أن علاء رمضان كان يضع في ذهنه - أن النص المسرحي هو نص للمشاهدة وليس للقراءة وهذا صحيح ، إذا كان النص من نسخة واحدة يقوم المخرج بتنفيذها ، أما وقد انتشر النص على نطاق واسع من خلال آلاف النسخ ، فهذا معناه أن المتلقي ( القارئ ) لابد أن يوضع في الحسبان حتى لا يفقد متعة القراءة !! ولكي يخرج من هذا المأزق ، كان يجب عليه أن يضع التوصيف - توصيف العنوان - والمفتتح و " الوثيقة " في نهاية النص .. وهذا حق تكفله له كل الأعراف الفنية والنقدية ذلك لأن المسرح فن مختلف عن بقية الأجناس الأدبية الأخرى ، فمن الممكن أن نقبل هذه التقنية في الكتابة إذا كان النص رواية أو قصة مثلا وفى هذه الحالة تمل هذه التقنية إضافة للنص ، أما في المسرح فالأمر مختلف . وإذا كان هناك من عذر يمكن التماسه للكاتب ، فلأنها أولى تجاربه في الكتابة الدرامية - على حد علمي . كان يمكن لعلاء رمضان الاكتفاء بتقنية العنوان الخارجي وتماسه مع العنوان الداخلي دونما اللجوء إلى التوصيف والمفتتح والوثيقة ...!! إن التيمة الرئيسية السائدة في هذا النص هي تيمة الاغتراب الناتج عن الفقد - فقد التواصل بين الفرد والمجتمع - استططاع علاء الدين رمضان أن يبرز هذه التيمة عبر جدلية ( " الداخل المخبوء " / " الخارج المرئي " ) داخل إطار درامي جيد يشي بأننا أمام كاتب دراما ينتظره مستقبل مبهر . تتضح هذه الجدلية من مطالعة العنوان وحتى نهاية النص الدرامي ، فكان لها أيضاً تأثيرها الكبير على بنية " المونودراما " والتي تتطلب - كما أشرت - تقنيات خاصة تجعل الفعل الدرامي أسرع إيقاعاً لأنها تأتي عبر صوت واحد وليس عبر أصوات متعددة كما في النص المسرحي الذي يعتمد على أكثر من شخصية . أهم هذه التقنيات في نظري براعة توظيف الكاتب للفضاءات الدرامية على جميع مستوياتها الداخلية والخارجية . ونعنى هنا بالفضاءات الدرامية الداخلية تلك الفضاءات المنظورة والتي يشاهدها المتلقي على خشبة المسرح وهى فضاءات النص الدرامي الحتمية ، أما الفضاءات الخارجية فهي تلك الفضاءات التي تكون خارج إطار الرؤية البصرية المباشرة للمشاهد والتي يحدث فيها أحداث ذات أهمية قصوى تؤثر بشكل أو بآخر في تطور الصراع الدرامي من ناحية ، وتسهم في إثارة ذهن المتلقي ( المشاهد ) أو ( القارئ ) من ناحية أخرى ، ومن ثم تكتسب بعداً تخيلياً يحمل المزيد من التأويل أثناء فعل ( القراءة ) والمزيد من الربط - بين الداخل والخارج - أثناء فعل ( المشاهدة ) ليحقق بذلك الافتراضية التي تميز المسرح عن بقية الأجناس الأدبية بأن هذه الأحداث - مهما كانت ضاربة في الزمن الماضي - يمكن أن تحدث الآن وهنا . ولذا فبنية الزمن في النص الدرامي تختلف تماماً عن بنية الزمن في الرواية أو القصة أو غيرها من الأجناس الأدبية . ومن ثم فالفضاء الداخلي فضاء منظور مباشر محدد ، أما الفضاء الخارجي ، فهو غير منظور ، وغير مباشر ، وغير محدد يعرفه المتلقي ( مشاهداً / قارئاً ) عن طريق وسيط ( تخبرنا به الشخصية المسرحية من خلال الحوار ) . فمكان الأحداث ( غرفة بمستشفى بينيكوم للأمراض النفسية والعصبية ، بهولندا )(3) أما الزمان ( زمن نسكنه ويسكن همنا ، وهو متاح للتكرار دائماً مادامت هناك أحلام ... وطموحات .... وعربة .... تترقب ) (4) هذا هو الفضاء العام والزمن العام الذي يحمل في طياته الزمن الخاص والذي لا يمكن بأية حال أن يتجاوز ( الآن ) وإذا تجاوزها فتصبح - على استحياء - (غداً ) الذي هو - من خلال الحدث - يرتهن بالآن . يتمتع " علاء رمضان " بقدرة فائقة على التوصيفات البصرية التي تشبه كتابة السيناريو السينمائي ، هذه التوصيفات تنم عن وعى تام بالوسائط المسرحية التي تستخدم في العرض المسرحي ( إضاءة - موسيقى - منظر مسرحي - قطع إكسسوار ..... الخ ) . >هذه الوسائط أسهمت بشكل كبير في تعميق المعنى وتوضيح أبعاد القضية ، بل إنها تنقل المتلقى من الخاص ( قضية محمد عطاف ) إلى العام ( المجتمع ككل ) . [[ ينكشف الستار عن واجهة مسرحية ، أو ستار آخر مرسوم بدقة ؛ رسومه عبارة عن إطار كبير من الزخرفة الإسلامية ذات الطابع الهندسي المعشق بالزخرفة النباتية ]](5) هذا أول توصيف بصري يفاجئنا به الكاتب مما يعطينا إيحاء بهوية البطل المنتمى للحضارة الإسلامية بكل شموخها وعظمتها الكامنة في روحانيتها والتي تختلف تماماً عن الحضارة الغربية بكل صخبها وماديتها وضجيجها .... ثم يتبع الكاتب هذا التوصيف البصري بتوصيف سمعي حيث : [[ يسمع صوت ديك يصيح ، ثم صوت خافت لمؤذن يؤذن من بعيد ، يتلوه مسمع من الموسيقا المشهورة المميزة للأذان فى مصر ، ثم تتحول إلى موسيقا هادئة مناسبة ، تتحول بدورها إلى مقطوعة فلكلورية مغربية من المقامات الفاسية القديمة ، معزوفة على آلتي العود والطنبورة ]] (6) . وهنا تتضح هوية البطل تماماً ، فهو شخص قادم من الشرق ( من المغرب تحديداً ) حاملاً معه تراث حضاري مخالف للمكان الذي فُرض عليه وهنا يبدو أول طرف من أطراف الجدلية - التى أشرت إليها . هنا نتلمس بعض خيوط ( المخبوء الداخلي ) . وقد نجح علاء رمضان في توصيل ذلك للمتلقي ( قارئاً / مشاهداً ) بحرفية عالية صورة شعرية تعتمد على الرؤية والصوت والحركة معاً ... مما يجعلنا نتماس مع خيال الكاتب من خلال فعل القراءة فتتسع رؤيتنا لعالم النص الدرامي عن طريق ما يضيفه خيالنا - نحن - إلى خيال الكاتب . وهنا يمكن الربط بين هذا التصور المطروح وبين الجزء الأول من العنوان العام ( سمكة ). ثم يأتي بعد ذلك التوصيف النقيض [[ ترتفع الواجهة المسرحية أو الستار شيئاً فشيئاً حتى تغيب معالمه كاملة في سقف المسرح ، فيتداخل مع الموسيقا سيل جارف من ضوضاء الحضارة وتلوثها السمعي وتخفت الموسيقا شيئاً فشيئاً حتى تتوقف تماماً وتستمر الأصوات بعدها ، سيارات تنطلق بسرعة ، أصوات ماكينات ، أزير طائرات ، هدير مصانع ، خرير ماء ، إذاعات ، تكات إلكترونية ، صغير موجي ، رنين هواتف ...... ]] (7) وهنا ينقلنا النص إلى الطرف الثاني من الجدلية ( الخارج المرئي ) بكل مستوياته .. الطرف النقيض ... الحضارة الغربية بكل ما فيها من مآثر ومثالب في آن واحد فتتكشف لنا دلالة الجزء الثاني من العنوان العام ( ظامئة ) وهنا تبدو عتبات النص أو مداخله واضحة جلية لنا .. فما يوشك أن نراه " سمكة " " محمد عطاف " قد خرجت من المياه ( مصدر حياتها ) وسر بقائها إلى أرض أخرى وتربة أخرى فأصبحت ( ظامئة ) وعبر جدلية (الداخل المخبوء / الخارج المرئي ) يمنحنا النص بعد ذلك دلالاته المختلفة لتصبح قراءتنا له أو مشاهدتنا له منتجة بمعنى أننا نولد دلالات جديدة سواء من خلال فصل القراءة أو المشاهدة ثم يستخدم علاء الدين رمضان تقنية ( الإظلام والإضاءة ) وهى من أهم تقنيات المسرحية الحديثة من أجل تعميق رؤيته وطرح قضيته وفى ظني أنه ينجح إلى حد كبير في ذلك لأن الحكم النهائي بمدى نجاحها أو إخفاقها لا يكون إلا بالمشاهدة ( الرؤية ) وهذا يتوقف على طرف آخر في عملية الإبداع المسرحي وهو المخرج . وبعد الكشف المبكر لهوية النص وهوية البطل ، يدخلنا علاء رمضان إلى عالم البطل لنكتشف ونتلمس الصراعات الداخلية المخبؤة .. ليبدأ عطاف كلامه بالسؤال عطاف : ما هذا الدليل ... ؟ ما الذي أتى به إلى هنا ؟ ............................................ عطاف : آه .. !! تذكرت الآن ، كنت سأنزف من جرح الكآبة ، أسقط قطرة على رصيف الليل ، بلسم أوجاعي بمواسم " مليكة " حين تحل بأرض الذاكرة بل أن تندفع سيارة الشرطة نحوى .. نحو شبح مهترئ في ليل بائس .... فنهرب .... صوت عاطف : لماذا هربت ؟! عطاف : إنني مواطن خارج محيطه ، بلا شرعية .. أرفرف من خارج السرب ، فيتربص القناصون بي . صوت عاطف : ولكن لماذا هربت ؟ عطاف : الهروب والبقاء كلاهما سيئ صوت عطاف : لكن الهروب يقتل بوادر النجاة ..! والأمل .. ! عطاف : والبقاء كذلك .. سيهشم آخر أطياف الحلم .. صوت عطاف : فاخترت الهرب . (8) يتجلى الداخل المخبوء شيئا فشيئا ومن خلال حديث الذات للذات ، إنه صراع داخلي يمور داخل ( عطاف " البطل المقهور في وطنه ، الملاحق من الشرطة لأنه حلق خارج السرب في وطن القهر ........ الخ . يترك عطاف الأرض الجبلية ويهرب إلى السهل إلى الأرض المنخفضة ، لم يكن القهر إلا انعكاس لواقع مرير ملئ بالحاجة والحرمان ، أب فقير وأم مريضة ، وأخت تنتظر الحلم ... وإلى هنا والخط الدرامي يسير كما أراد علاء رمضان تماما ، متجها بخطى حثيثة نحو الذروة عطاف : ........ أول حلم لي هو الانعتاق من رقبة أحزان الوطن .. إذ يلوثنا بالعجز والانحسار .. تذرعت بقناع الدراسة وأتيت ... نعم ....... كانت أملاً .... كانت قناعاً .. كانت أملاً في أن أصبح من عتقاء العلم ... أمر إلى الإنسانية من فوق قنطرة العقل ... لكنهم تآمروا علىّ (9) بمنطقية الدراما ، وبتقنيات المونودراما - يوضح " عطاف " أسباب الرحلة وكيفية الخروج ، وإلى الآن نحن نعيش مع الشخصية المحورية بكل ما تحمله من عذابات يمكن للمتلقي ( قارئا / مشاهدا ) أن يسقطها عليه لأن النص لا يمكن فصله عن السياق الاجتماعي والثقافي سواء في زمن إنتاجه ( خلقه / إبداعه ) أو في زمن تلقيه . بيد أن الكاتب أبى علينا هذه المعايشة عندما نقل " المنولوج " من ضمير المتكلم المفرد إلى ضمير المتكلم الجمع . عطاف : ......... لكنهم تآمروا علىّ ( يصمت كأنه أخطأ ) عطاف : علينا (10) ثم يعود مرة أخرى للحديث بصيغة المفرد وهذا يجعل المتلقي يعيش حالة من الانفصال ، ثم حالة من الاتصال ، لتتداخل العلاقات وتتشابك ن خيوط كثيرة في وقت واحد وهذا وإن اتسق مع الدراما المتعددة الشخصيات فهو لا يتسق مع المسرحية الشخصية الواحدة ولعل علاء رمضان أراد أن يقول إن التآمر الخارجي ضد عطاف لم يكن تآمراً ضد الفرد بل تآمراً ضد الجماعة ويؤكد هذا الاحتمال انتقال الشخصية " عطاف " إلى إظهار الدوافع التي دفعت أصحاب الأرض المنخفضة إلى التآمر فهو مرفوض لأن مؤهلاته العلمية غير معترف بها ، فهو مرفوض لأنه لا يملك اللغة التي يتعلم بها أو حتى يخاطبهم بها وهذا معناه فقدان التواصل ... إن عطاف ( السمكة ) وجد نفسه فجأة خارج ( المياه ) عطاف : ...... الإخفاق يواصل ضرباته بعنف وصلافة في كل جبهاتي ... ، حتى تقلصت رغبة الطموح والتجاوز ، واستبد بي حقيقة وحيدة .... عطاف : إني انتهيت (11) وعن طريق الإظلام والإضاءة .. يحاول ( علاء ) أن يعطينا فرصة لالتقاط الأنفاس، وليخفف من حدة التوتر قليلا .. ولكن يستخدم رنين الهاتف وكأنه جرس تنبيه فيستعر الصراع من جديد ( داخليا / خارجيا ) عطاف : أية فانتازيا كنت أريد ؟ ما كنت أريد سوى أحلام عادية .. وجميلة .. كلها تدور في الخير والطمأنينة . ليس أكثر .. تلك طموحاتي .. ما كانت تحوجني للصعود إلى الأرض المنخفضة .. لو أنى من غير العالم الثالث .. لو أنى لست ضعيفا .. يحلم من أنباء الدول النائمة على أذنيها .. لا يشغلها غير الحلم .. لحى سوداء ورأس فارغ : كون هذا الهيكل .. ثم أغمض عينيك.. أنت الآن أمير الناس تخيل . وكل الناس رعاع دونك تخيل .. تقرأ .. لا تصنع .. لا تصلح .. كنت إمعة .. وتخيل ... (12) وهكذا يحيلنا النص بشيء من المباشرة إلى نقد الواقع على مستوييه المخبوء والمرئي، ثم يحيلنا إلى المقارنة بين العالمين عالم الأرض المنخفضة وعالم الجبل وما بينهما من تناقض جعل عطاف على حافة الجنون فهو لا يستطيع المضي ولا يستطيع العودة . على أن الذي أسهم في ضبط إيقاع النص هو إجادة الكاتب استخدام تقنية الإظلام والإضاءة ولعلي لا أبالغ هنا إذا قلت إنّ استخدام هذه التقنية بوعي هو الذي جعلنا نقبل المباشرة - رغم أنها عيب فني - دونما أن نفقد متعتنا عند تلقى النص . قد عبرت الإضاءة عن المستقبل الحلم والإظلام عن الواقع ، ربما جعل رؤيتنا تتنوع على مستوى الفضاءات التخيلية للدراما . عطاف : نحن وإن كنا نستحق أن نكون مصدر الإنارة ( تتسع بقعة الضوء ثم تتعدد ) عطاف : إلا أننا غير مسئولين عن الانطفاء ( إظلام تام .. ثم إنارة خافتة جدا وتسلط عليه بقعة ضوء ) عطاف : وحتى تنير ... سيمضى جيلنا منطفئاً ( إظــلام ) عطاف : يتخلق الضوء في أحشائه لأجيال أخرى قادمة ( ضوء خافت .. ثم بقعة ضوء ) عطاف : أي أننا سنظل منطفئين حتى نمضى .. الفرق الوحيد .. / السؤال .. أن نخصب الحلم في رحم الأرض .. / الوطن .. ثم نشعل جذوة الضوء .. ( إضاءة كاملة ) عطاف : أم نمد الظلام إلى أعماق الروح كأسلافنا من بعيد .. ( تقل الإضاءة تدرجيا حتى تصل إلى الإظلام التام ) (13) وعندما يتعامد ( صوت الذات ) مع الشخصية ) تبدو الصراعات الدرامية مستعرة داخل الشخصية المقهورة التي تعانى اغترابا يرفعها إلى حافة الجنون على أن ما يلفت النظر في هذه المنودراما هو استخدام الكاتب حيلا مسرحية أو إن شئنا الدقة قلنا تقنيات مسرحية وظفها توظيفا جيدا كسر من حدة الانفعال واسقط - من خلالها - ما يحدث لعطاف على المجتمع ككل ليتجاوز محنه ذاتيتها لتصبح قضية جيل بأكمله بل ومجتمعات بأكملها ... أهم هذه التقنيات - في نظري - هو استخدامه صوت رنين الهاتف في لحظة من أجمل لحظات الدراما حيث يعلو صوت الرنين عبر مكبرات الصوت ويخفت الصوت عندما يتكلم عطاف .. إن مأساة عطاف جزء من كل وما صوت الرنين عبر مكبرات الصوت إلا جرس الإنذار الذى ينذر بالكارثة كارثة سقوط عطاف الفعلي نتيجة لهذا القهر المنظم على المستويين الداخلي والخارجي وكارثة توشك أن تحدث لمجتمع بل لأمة بأكملها . عطاف : لكن الظلام كثيف من حولي ( إظلام تام ، ويسمع رنين الهاتف من خلال أجهزة الصوت التي تتوقف فقط عندما يتكلم الممثل ، وتعود الإضاءة تدريجيا ... ) عطاف : وعضة تعتمد حلقي .... تجثو على صدري ( رنــين ) عطاف : مللك يترقب أنفاسي ........... ( رنــين .......) عطاف :وتوتر يسكن بقايا الحطام في ( رنــين طويــل ........ ) عطاف : كم آمل لو أصرخ فيعلو صوتي ( رنين ........... ) عطاف : أصرخ فيسمعني العالم ... كل العالم ..... ( رنين .......... ) عطاف : أحب الناس جميعا .... (14) ثم يأتي استخدام الكاتب للفراغات النصية أو ما يمكن أن نطلق عليه فضاءات النص - فضاءات الكتابة .. كاستخدام التعدد النقطي والأقواس وبعض علامات الترقيم ..... الخ ليكمل صورة من صور الند والضياع التي شاعت من خلال النص ويكفى مثلا على ذلك الحوار الذي يدور بين عطاف وصديقه الوهمي ( المتخيل ) عبر الهاتف وهو حوار النهاية المليء بالفراغات النصية والتي يستخدم فيها التعدد النقطي الأفقي ن والنقطتين الرأسيتين والأقواس ، ثم الفاصلة حتى آخر كلمة في جملة النهاية التي هي عبارة عن نقاط أفقية متعددة ......... ( انظر الصفحات 53 ، 54 ، 55 ) وينهى علاء الدين رمضان مونودراما ( محمد عطاف ) ثم يذيلها بمقطع شهري .... يبين ما يرمى إليه النص ... حتى إنه يفسر العنوان صراحة ( يظل طويلا هكذا سمكة ظامئة في صحراء هولندا ) !! ولست أدرى سببا معقولا لهذا التفسير علما بأن النص قد أفصح عنه !! فإذا كان علاء مصراً على ذلك فلتكن المقدمة والوثيقة ... في مكانهما الطبيعي بعد النص وليس قبل الدخول إلى عالم النص لأنني كما أشرت نحن بإزاء فن مختلف وجنس أدبي مختلف مهما يكن فإننا بعد هذه القراءة النقدية للنص أزعم أن علاء رمضان قد أقدم بجسارة يحسد عليها على خوض غمار تجربة الكتابة المسرحية بوجه عام وللمونودراما بوجه خاص مستخدما تقنيات فنية مسرحية تنم عن وعى بفضاءات الدراما ومتطلباتها ، كذلك طريقة الكتابة والفراغات النصية التي تسهم في خلق دلالات جديدة خلال عملية القراءة، الأمر الذي يدفع إلى الزعم بأن مونودراما ( محمد عطاف ) لعلاء رمضان تجربة تستحق التوقف النقدي وتعكس مدى التحول الذي طرأ على الإبداع الدرامي في الصعيد على مستوى الدراما وعلى مستوى النص . - 3 - لم تشهد الأجناس الأدبية علاقة أوثق من علاقة الشعر بالدراما ، على أن هذه العلاقة ليست مسوغة - بأي حال من الأحوال - على أن يطغى الشعر على الدراما ، فطغيان ( الشعري ) وهيمنته على ( الدرامي ) أمر يفقد المسرحية خواصها النوعية المتعلقة بكونها جنسا أدبيا له سماته الجمالية والفكرية المحددة التي تنحاز عن الأجناس الأدبية الأخرى . إنًّ هذا الأمر يجذبنا مباشرة إلى الحديث عن اللغة ودورها في الدراما ، إن اللغة - شأنها شأن الدراما - لها طبيعة أدائية في المقام الأول ، لا طبيعة جمالية فحسب ، وهو الأمر الذي افتقده ( نص ) علاء رمضان الثاني ( الخروج إلى القلعة ) ، ولنتفق منذ الآن على إطلاق نعت ( نص ) بدلا من مسرحية شعرية ، ونعت ( مقطع ) بدلا من مشهد ولعل تبرير ذلك سيظهر بين السطور التالية . وسوف أشير في نقاط موجزه إلى عدد من الأمور الهامة المتعلقة بهذا النص : 1- النص يتكون من خمسة مقاطع شعرية ، الرابط بينهما الشخصيتان الرئيسيتان ( هو / هي ) ، وهما شخصان لم يكتب لهما النمو داخل النص ، إذ جرى صاحبه خلف أجراس الكلمات وموسيقاها ناسياً - أو متناسياً - أنه يكتب [ مسرحية شعرية ] كما صادر على قارئه منذ البداية وحاول أن ينع إيهاما بواقع غير متعين ، لعله كان يحاول تكسير أو تحطيم خطط الكتابة للدراما التقليدية من خلال تكسير زمن النص .. لكن فاته أنه لا يمكن تكسير زمن العرض لأن المسرح يفترض دوما أن هذه الأحداث يمكن أن تحدث الآن وهنا !! حاول علاء الإيهام بواقع غير متعين ، مدججا بترسانة - أخطأت تحت مجهر النقد المسرحي الفاحص - من الاستعمالات اللغوية المدهشة والتي تكتسب صفة ( الشعر ) ولكنها لا ترقى بأي حال من الأحوال لصنع ( دراما ) جيدة !! هناك ثمة رابط آخر بين مقاطع النص الخمسة يتمثل في ( السينوغرافيا ) - مجازا - ، أو لنقل الصيغة التشكيلية البصرية والسمعية التي حاول المؤلف صنعها . 2- يحمل المقطع الأول عنوان ( الطرقات الظامئة ) وهو حوار بين فتاة في الخامسة والعشرين ، وفتى في العشرين وهو حوار يتسم منذ البداية وشأنه شأن مقاطعه النص الباقية - بالشعرية أكثر من ( الدرامية ) على أن الكاتب قد حاول أن يغلف نصه بإشكاليات قد تدخل النص في مصاف ( الدراما ) ، فالمنظر المسرحي مثلا في المقطع الأول والذي يصور القطعة مهدمة شاحبة ، والمسجد لا تضاء فيه سوى المئذنة إنما يشي بذلك الفراغ الروحي الذي يتوازى مع ما يعانيه العاشقان ( هو / هي ) فيمكن بذلك أن نعده - عبر قراءة تأويلية ( هرنيوطيقية ) - معدلا موضوعيا لفراغ حضاري تجلى بانهيار مشروع ( محمد على ) أحد رموز القلعة ورجالاتها . ولكن - وهو الأهم في رأيي - كيف يقال ذلك ؟ إن الأمر في الفن عموما كما صورة ( ماكلش ) حين قال : " إنّ القصيدة يجب أن تكون ، لا يجب أن تعنى " فالنوايا الطيبة لا تصنع دراما شعرية جيدة ، مهما أوتيت من بلاغة الكلمات وطلاوتها فعليك كي تصنع دراما أن ( تضحى بزخرف الكلام وأناقته في سبيل الشخصية إذا لزم الأمر ... ذلك خير من أن تضحى بالشخصية في سبيل الزخرف الكلامي والبرقشة البيانية ، وتذكر أن الحوار يجب أن يكون صادرا عن الشخصية ومعبرا عنها تعبيرا طبيعيا لا افتعال فيه ، وأن حلاوة الكلام وطلاوته لا تساويان إرسال حوارك رشيقا أنيقا فياضا بالحركة دون أن يضيع ذلك على شخصياتك المسرحية نماء ذواتها وتطورها " (15) 3- تتكرر في النص ما يمكن تسميته ( الجملة / المركز ) " فالقلعة عارية .. لا أسوار الآن .. ولا عسكر " (16 ) " والقلعة عارية الأسوار الآن .. ولا عسكر " (17) " والقلعة مشرعة للأوهام .. عارية .. لا أسوار .. ولا عسكر " (18) وهى تؤكد ما طرحناه حول إلحاح النص على الفراغ الروحي - ومن ورائه المادي بالطبع - الذي يعانيه الوطن . ولعل هذا يحيلنا إلى ربط العنوان الداخلي ( الخروج إلى القلعة ) بالعنوان الخارجي ( سمكة ظامئة ) 4- تشيع في النص تيمات تقليدية تتراوح بين ( الاغتراب ) و ( الحب ) غير أن ما يلفت النظر هو الإلحاح على تيمة مستهلكة ( الفتاة / الوطن ) وهى تيمة بناءه الدرامي ( غير المتحقق ) في مقطعه الأول . 5- في المقطع الثاني والذي أسماه ( ذاكره الحب ) تتحول القلعة من رمز للمجد والشموخ والتاريخ البائد إلى أثر دال على الخيانة والقهر ومصادرة الحريات . هو : بل قتلتني كل شياطين القلعة ..... وصباح أخرس ... لا زهر .. ولا أنداء القضاة : أي صباح تقصد .. هو : صبح أشرق في " مفرق وجه " الباحث عن غربته في غربتها .. استاءت من عدميتة القاهرة .. صبح .. كذاب .. شجبته المدن البيضاء يتملق - تسليما - لتراتيلي .. يكرهني .. وأحيه ... القضاة : قد قتلك صبحك .. ؟! (19) إن المقطع الثاني ( ذاكرة الحجب ) كان يمكن أن يكون نواة جيدة لدراما شعرية رائعة لو أحسن " علاء الدين رمضان " استغلال مشهد المحاكمة ، والتي كان من الممكن أن تصير صرخة إدانة في وجه الكل ، لا مجرد صرخة يرفع بها الفتى ( هو ) عقيدته في نهاية المشهد !! 6- في المقطع الثالث ( أشعل نيرانك في ) تزيد مساحة المونودراما الداخلية والتي من شأنها أن تخفض من توتر الدراما - غير المتوترة أصلاً - وعلى الرغم من محاولة الكاتب إدخالنا منطقة ( التاريخ ) بأجوائه الرحبة بوصفها محاولة لصنع المزيد من الإسقاطات والدلالات ( السلطان عز الدين أبيك - شجرة الدر - أم على ..... ) بيد أنها لم تكن محاولة كافية لإدخال النص منطقة الدراما فلم نشهد حدثا صاعدا أو - حتى هابطا - ولا تناميا في الشخوص وعلاقاتهم بعضهم البعض ، فكان ( التاريخ ) هنا بمثابة الوعد الزائف الذي سرعان ما يتبخر تحت وطأة الكلمات المكسوة بصبغة الشعر والمفتقدة إلى حركية الدراما !! 7- في المقطع الرابع ( جئت على قدر ) يعيد الكاتب رسم المشهد ذاته الذي رسمه في الفصل الثاني وبتفصيلاته تحمل سمة التكرار والاجترار لما سبق . 8- في المقطع الخامس ( سأجرب أغنية أخرى ) يكون سقوط ( هو ) وحده ، وكأنه يعزف لحناً منفرداً طالباً المدد من ( هي / الوطن ) كي يقف بصلابة في وجه الريح . 9- إن الكاتب حاول الاستفادة من تقنيات عديدة أهمها تقطيع المشاهد سينمائياً يعكس استفادته من تقنية كتابة السيناريو السينمائي ووعيه بالتداخل بين الفنون - الذي أصبح سمة لكل الكتابات الجديدة تقريبا - وكذلك استخدامه للتناص القرآني " سورة يوسف " والذي استطاع أن يوظفه شعريا وقد أخفق فى توظيفه درامياً . ( * ) وبعد .. فإن مزواجة الشعر والدراما ليس كافياً - بأي حال من الأحوال - لصنع دراما جيدة فإذا كان " علاء رمضان " قد لفت إليه الأنظار بشدة بوصفة كاتبا دراميا من خلال مونودراما ( محمد عطاف ) عاكساً بهذا النص مدى التحول الإيجابي في كتابات مبدعي الصعيد الدرامية على مستوى الدراما وعلى مستوى النص ، فإنه في " الخروج إلى القلعة " أثبت رسوخ قدمه كشاعر موهوب ، عاكساً تحولاً مضاداً - سلبياً - لتطور الدراما الشعرية في الصعيد ، تلك الدراما التي خطا بها كل من درويش الأسيوطي - الذي يعد رائداً ومجداً في الكتابة الدرامية الشعرية والنثرية ومحمد سيد عمار خطوات واسعة على مستوى الرؤية والتشكيل الدرامي في الحفاظ على قدر كبير من جماليات لغة الشعر التي تبدو من خلال السياق الدرامي وليس من خلال السياق الشعري !! - 4 - " المزعجون " مسرحية شعرية أخرى للكاتب " عشم الشيمى " هي العمل المسرحي الأول للكاتب - على حد علمي - وقد حاول أن ينحو فيها منحى تجريبياً أيضا من خلال طرحه للقضايا نفسها التي طرحها علاء رمضان حيث القهر والاغتراب والانعزال وهى التيمات المسيطرة على النص ،. وإذا حاولنا رصد التحولات الدرامية والنصية ، نجد أن النص يقف في منطقة وسطى بين الدراما وبين الشعر فلم تحقق فيه " الدراما " تحققا كاملا ، وكذلك الشعر فهو ناقص درامياً وناقص شعرياً . إن أول ما يلفت النظر في " النص " هو العنوان وصورة الغلاف - لم يشر النص من قريب أو بعيد إلى مصمم الغلاف - لكنه جاء معبرا عن معنى الاغتراب ومعنى القهر وهذا بالطبع في الفضاءات النصية أو الميتانصية ، نجد على ظهر الغلاف تقديما للنص بقلم الناقد د . جمال التلاوى وعلى الرغم من أن الملخص النقدي الذي كتبه الدكتور جمال قد أحاط بأبعاد كثيرة للنص بيد أنه قد ظلم " النص " ظلما بينا عندما أشار إلى صلاح عبد الصبور ( مسافر ليل ) والبون شاسع بين النصين وهنا تكمن خطورة النقد المشجع ولاسيما إذا كان هذا النص أو العمل الأول للكاتب ، وهنا يتحول النقد - بدون قصد - إلى صوت مرتفع يمجد العمل دونما إشارة إلى مثالبه التي يمكن أن يفيد منها المبدع في أعماله اللاحقة فليس معنى أن الكاتب قد اختار (عربة قطار) مكاناً تدور فيه أحداث مسرحيته أنه يشبه صلاح عبد الصبور !! الشيء نفسه قام به الأستاذ محمد جبريل مع نص علاء رمضان (سمكة ظامئة ) ، فنجده قد أفاض في تناول " المونودراما " من خلال دراسته الملحقة بالنص والتي استغرقت عشر صفحات تقريباً ، خصص منها ثمان لنقد مونودراما ( محمد عطاف ) واثنتين فقط لتناول مسرحية الخروج من القلعة !! . وأنا أحذر - فحسب - من النقد (التبريري) الذي تمر عبره الأعمال جيدها ورديئها !!. تتكون مسرحية عشم الشيمى من ( مفتتح ) عبارة عن تناص مستقل من فاروق شوشة " فلماذا حين تغيب الحكمة يطغى الإنسان " (20) ، وكأن هذا النسق من الكتابة أضحى بفعل شيوعه تقنية اكتسبت سمة ( التقليدية ) والتكرار ، فلا ضرورة للتناص إذا كان لا يفيد النص . إذ لابد من حتمية التقاء ( المناص ) بالنص على نحو من الإيحاء وهذه بديهة نقدية. لا نجد في مسرحية " عشم " حدث محدد يتنامى عند انتقالنا من مشهد إلى مشهد وفى اعتقادي أن النثر هو الأقرب لتجريب هذا الشكل من الكتابة المسرحية . لأن هذا الشكل يتطلب نوعاً من السكون بينما الكتابة الشعرية - على مدار تاريخها المسرحي - هي كتابة متحركة تكشف عن صراعات ومجلى بطولات ..... الخ . شخوص المسرحية عشر ( بائع (1) ، بائع (2) ، البائعة المسن - السيدة المسنة - الموظف المهم - الشاب - عامل التذاكر - قارئ الكف ) ، والفضاء المكاني هو عربة من عربات القطار . شخصيات تتقابل بالصدفة البحتة ليس لهم هم سوى أن يزعج بعضهم البعض وإن جاز لنا أن نقول أن هذا النص احتوى على شكل من شكول الصراع المختلفة فهو صراع غير محدد ، مصدره تلك الثنائية التي لعب عليها علاء رمضان ( الداخل المخبؤ / الخارج المرئى ) أو إن شئنا الدقة فإن الصراعات الداخلية هي التي تصطدم على فترات متباعدة خلال النص بما هو خراجي تتكشف أبعاده شيئاً فشيئاً من خلال العلاقات الثنائية سواء بين البائع(1) وبائع (2) والبائعة ، أو بين المسن والمسنة ، أو بين الرجل المهم وزوجته والشاب أو بينهم جميعاً بعد ذلك . السيدة : ( لزوجها المسن ) انظر ! لا أبغى سفراً بقطار الإزعاج وتقول : أمان انظر حولك ، ما يجرى الآن مجرد تصغير لحياة ... كبرى وأنا ابتعد بقدر الإمكان عن الناس ، عن الإزعاج . (21) المعانة تكاد تكون مكررة ، جميعهم يدورون في الفراغ لعل الكاتب يريد أن يعكس لنا حالة الفراغ التى يعيش فيها المجتمع وما يتبعها من ضياع على جميع المستويات !! ربما. الإيقاع الشعري داخل النص ثابت ولا يتغير فقد التزام الكاتب بحراً واحداً من أول النص إلى آخره وهو من أسهل الأبحر الشعرية وهو بحر المتدارك ( فاعلن / فاعلن/فاعلن) محذوف منها ساكن الوتد المجموع فتصبح فاعل جو / خانق إني / أختنق ... خانق يبدو / أنك / مرهق ! ابني / يرجع / كل مساء متعب صدقني لم / أخبرك ابني / يعمل ورغم ذلك فالنص ملئ بالكسور التي لا يمكن تلافيها أثناء الإلقاء على خشبة المسرح . كان من الممكن أن نتجاوز عن بعض هذه الكسور العروضية إذا كانت هناك دراما شعرية بمعناها . ويكفى دليلاً على ذلك المقارنة - التي حتما ستكون ظالمة - بين نص عشم ونص عبد الصبور !! ليس على مستوى الكتابة الشعرية الدرامية فحسب بل حتى على مستوى الشخصية المسرحية ويكفى أن نلقى نظرة سريعة بين شخصية عامل التذاكر (عبد الصبور) وعند ( عشم ) !! إننا في هذا النص يمكن أن نستبدل مشهداً مكان آخر ولا يحدث خلل على مستوى البنية الدرامية - غير مكتملة أصلاً - !! حتى الديالوجات الطويلة بين بعض الشخوص نشعر أنها مقحمة على السياق الدرامي ( انظر الحوار الطويل بين الشاب وبني الموظف المهم من ص 42 : ص 53 ) . إن قيمة هذا النص تكمن فى أنه عكس حالة الاغتراب والعزلة التي يعيش فيها كل فرد بمنأى عن الآخر ، مما يعنى فقد التواصل بين الفرد والجماعة ، إنه انعكاس لآلية الحياة الحديثة بصخبها وضجيجها ، كما يتسم النص أيضا ببروز تقنيات متعددة يستخدمها الكاتب ، ولعل أبرزها استخدامه لتقنية البناء الدائري ، فالنص يبدأ في القطار وينتهي في القطار أيضا، وهو الأمر الذي يشي بدلالات متعددة تنبئ عن الدائرة المفرغة التي يحيا فيها رئيساً متنامياً ومتطوراً ، وهو الأمر الذي يعد تعبيراً عن خلل ما في البناء الدرامي للمسرحية . وعلى الرغم من احتواء المسرحية على شخوص فاعلة في الدراما ، بيد أنها لم تكن حاملة لآية أبعاد تطورية متنامية ، أسهم في ذلك عدم مراعاة الأبعاد الثلاثة الرئيسية في رسم الشخصية ( الاجتماعي ، النفسي ، الجسماني ) . و( القطار ) هنا يخرج من دلالته المادية الوجودية إلى دلالة أخرى معنوية ، وذلك بوصفه تعبيراً عن الزمن الذي يطوينا دوماً بداخله ، وتعبيراً كذلك عن عجلات الحياة القادرة على دهسنا نحن البشر ، والمرور من فوقنا ليل نهار . وتهيمن على مشاهد النص الخمسة الأجواء نفسها من ( حركة القطار - الصخب - الحواريات الشعرية ) وهو الأمر الذي يمنح النص ديناميكية خاصة بحيث يمكن تحريك المشاهد بداخله واستبدال مشهداً بآخر دونما مساس بالنص . لقد تشكلت ملامح مسرحية ( المزعجون ) وأنساقها المعرفية والجمالية بين مفتتح النص ونهايته ، فغياب الحكمة أدى إلى طغيان الإنسان ، ومن ثم إلى غربته في هذا العالم وشعوره بالتشيوء والاغتراب ، وهو الأمر الذي يؤكد - ما أشرنا إليه من قبل - من بروز تقنية البناء الدائري في النص ، ون ثم تأتى النهاية على لسان عامل التذاكر . عامل التذاكر : لا شيء غريب في دنيانا دنيانا !! دنيانا قامت لاستغراب كل المحسوس أمور عادية هذا إن كنت تراها ذلك وإذاً لا استغرب لذلك ! عجلات قطار مرت وتمر الأخرى في دقة ترتيب ورتابة فقط انس بأنك تجرى في هذه الدنيا واقطع تذكرتك نم كمسنَّ .............. الخ (22) على أية حال يمكننا أن نستشعر في هذا العمل بذرة كاتب مسرحي قد ينضج مع مرور الزمن ومع توالى التجارب ؛ ليسير على درب من دشنوا نسق الكتابة الشعرية الدرامية ، وطوروها بحق أمثال الشرقاوي وعبد الصبور ومحمد مهران السيد وأبو سنة وجويده ودرويش الأسيوطي وغيرهم ... وبعد ... كانت هذه إطلالة على المشهد الإبداعي الدرامي في الصعيد ، أرجو أن أكون قد وفقت من خلالها في رصد التحولات الدرامية والنصية بموضوعية بحتة دون مجاملة أو تزييف ، راجياً أن تكون العلاقة بين النقد والإبداع علاقة مثمرة بكل ما تحويه الكلمة من دلاله . والله ولى التوفيق ، د. محمد عبد الله حسين القاهرة / بنى مزار في 1 /3/ 2004
الهوامش 1) انظر : د. إبراهيم حمادة ، معجم المصطلحات الدرامية والمسرحية / دار المعارف ، د.ت المصطلح رقم 255 ص 125 . 2) علاء الدين رمضان - سمكة ظامئة - مسرحيتان " محمد عطاف " / الهيئة العامة للكتاب / اشرقات جديدة 2003 ص 7 . 3) المصدر السابق ص 19 . 4) نفسه ص 19 5) نفسه ص 21 . 6) نفسه ص 22 . 7) نفسه ص 22 . 8) نفسه ص 25 ، 26 . 9) نفسه ص 32 . 10) نفسه ص 32 . 11) نفسه ص 34 . 12) نفسه ص 36 . 13) نفسه ص 42، 43 . 14) نفسه ص 45 . 15) انظر : لاجوس اجرى : فن كتابة المسرحية / ترجمة درينى خشبة ، دار سعاد الصباح ، الكويت ط1 ، 1993 ص 414 . 16) علاء رمضان ، الخروج من القلعة ص 67 . 17) المصدر السابق ص 69 . 18) نفسه ص 114 . 19) الخروج إلى القلعة ص 91 . (*) انظر الصفحات 110 ، 112 ، 118 . 20) عشم اشليمى / المزعجون / كتاب نفرتيتى / فرع ثقافة المنيا د. ت . 21) نفسه ص 13 ، 14 . 22) المزعجون ص 73 ، 74 . |
|