1
كعادتي دفنت في جمر " الكانون " بيضة
، لم أجد بيضة دجاجة فأخذت خلسة بيضة إوزة .
ويا ويلي لو انفجرت تلك البيضة وأحدثت
دوياً ، وعلمت أمي بالأمر ستقتلني .. والله
ستقتلني - خاصة لو علمت أني أدس البيضة لمسعود
- تركتها تنضج وعمدت
إلى غسل وجهي ، وتمشيط شعري ،
.. ووضعت منديلاً نظيفاً على رأسي ، وتحينت
فرصة انشغال أمي بحلب البقرة ، وانشغال
أختيَّ " زينب " و " أمينة " في بناء
" الفرن " ، وتسللت إلى غرفة أمي وفتحت
" السحارة " الخاصة بها ، وأخرجت منها
قطعة القماش الحمراء الصغيرة التي اشترتها
أمي من الدلالة لتجميل وجهها .
مررت بها على وجهي كما تفعل هي .. ليصير
وجهي أكثر احمراراً .. ، ثمانية أيام لم أر
مسعود ، لكنها جعلته يقترب من قلبي ثمان سنوات
أو قل أكثر.. الشوق عصفور ينقر قلبي برقة هذا
الألم اللذيذ لم أجربه من قبل .
صررت طعامي ، ودسست البيضة ساخن
في صدري .
تقول جدتي .. أن الأشياء الساخنة تجعل ثدي
البنت يفور بسرعة ، لذلك كنت في يوم الخبيز
دائماً تجدني أجلس أمام الفرن انتظر خروج أول
" بتاوتين " أو " رغيفين " آخذهما
وأجري إلى المندرة الرطبة ذات الكوة الواحدة
، والضوء الفقير، واضعهما ساخنتين فائرتين
فوق صدري وأتحمل آلامهما بصبر جميل لكي ينضج
بسرعة ثديي وأتزوج من حبيبي .
.. حين أخذت الأغنام وهممت بالخروج
استوقفتني أمي ، وراحت تحذرني من السير بجوار
زراعات الذرة ، وأن عليَّ أن أسلك طريقاً
خاليا تماما من حقول الذرة ، وأن أختار مكانا
أمينا .. وراحت تذكرني بذلك السجين العائد منذ
ثمانية أيام ـ عبد الرؤوف أبو شايبة ـ الذي لن
يفلت من أيدي " المرازيق " اللذين
يتربصون به ، ولهذا فهم موزعون ، ومزروعون في
دغل الذرة كأنهم جزء من تلك النباتات .
شعرت بالسأم والملل والضيق ، فقد كرهت
بشدة هذه الحكاية ومللتها ، ثمانية أيام
أُمنع من الخروج للمرعى بسببها ، ولا حديث في
ليل أو نهار إلا عنها .
قلت بضيق :
- لا الذي قُتل مُنذ خمسة عشر عاما من عائلتي
، ولا ذلك السجين العائد أيضا .. فلماذا
يقتلونني ؟! .
صاحت عصبية :
- هناك من يُقتلون بغير ذنب ،
بغير قصد .. في مثل هذه الأيام السوداء كوجه
أمك ، فقد يصادف مرورك في وقت مرور - عبد
الرؤوف - فيطلقون النار صوبه ، فيصاب رأسك
العنيد الذي يستحق تحطيمه بعيار طائش ، فهمتي
؟! .
- طيب .
- هل علمتِ في أي داهية ستذهبين ؟.
- أي مكان تقولين عليه ؟
- اذهبي إلى فدان " غويل " .. مكان واسع
، وفيه أشجار السنط كثيرة ، ونخيل ، وبعيد عن
الحقول .
كانت جدتي تخيط بعناية فتق في جلبابها ، وقد
استمعت جيداً للحوار الذي دار بيني وبين أمي
وعلقت بقولها :
- تبقى دماء القتيل مشتعلة ، مادام القاتل
حيا يرزق ، حتى وان مضى عليها ألف عام .. لا
يطفئها إلا دماء ذلك القاتل.
أصابني قول جدتي بالغليان حتى أمي لم تعلق
هذه المرة على هذا الكلام الدموي .
***
حين خرجت من البيت شعرت بأنفاسي ترتد
إليَّ ، كل قيود الخوف التي وضعوها حول قدمي ،
وعنقي ، انتزعتها وألقيت بها من وراء ظهري
ومضيت منطلقة اشعر بنسيم الحرية يدخلني من كل
الاتجاهات .
أقرب طريق يوصلني إلى مسعود هو ذلك الطريق
الذي تمر من خلال العربات .. وكأني أرى هذا
الطريق لأول مرة ، كل شيء فيه يبدو لعيني جديد
، نباتات الحلف التي تحف به ، وأشجار السيسبان
، والصفصاف ، وشعر البنت ، والخروع ، والنخيل
.. حتى الترعة التي تقع على الجانب الأيمن من
الطريق .. تبدو اليوم رائقة أكثر من أي يوم ،
ونباتات الغاب التي تزخر بها على شاطئيها
تبدو اليوم أكثر خضرة .. أكثر طولاً .. ستغني
دون أن يبذل مسعود أي جهد في تجفيفها وثقبها،
والذي يأخذ منه ومن والده جهداً كبيراً .
النعجات الثلاث والماعزتان بصغارهما لا
يكفون عن التلكؤ والمراوغة ، ينتقلون من شاطئ
الترعة إلى منصف الطريق ثم إلى جوانبه
والعربات على ندرتها .. تشكل لي خطراً حقيقياً
داخل نفسي .
***
تحت ظلال شجرة النبق العتيقة العملاقة ،
في نفس مكاننا كان مسعود ينتظرني بابتسامته
الطيبة ، وجلبابه المخطط بخطوط مستقيمة بيضاء
وخضراء ، بلون الفجر ولون الحقل .
عصفور الشوق فرّ هارباً لما رأى مسعود
يُقبل ناحيتي ويسرع الخطى ليستقبلني ، مددت
يدي لأصافحه فأبقى عليها بعض الوقت ، وحين
سحبت يدي أدرك الأمر وأحس بخجل شديد ، فتورد
وجهه الأسمر على الفور ، قال بفرح :
- صنعت لكِ بيتاً جميلاً من بوص الغاب ، لا
يسع أكثر من اثنين ، وافترشته بحصير خضراء
طرية صنعتها من سعف النخيل ، سيعجبك كثيراً
حين ترينه من الداخل .
حين هممت بالدخول في الكوخ الصغير ، أخذت
أبالغ في حَبك الطرحة فوق صدري الناتئ لكي
يفهم أني لم أعد صغيرة بعد .. وأني أخفي ها هنا
تحت هذه الطرحة شيئاً خطيراً .
جلسنا متجاورين ، دس يده في " سيالته
" وأخرج حفنة نبق ناضجة لذيذة وأعطاها لي ،
واخرجت من صدري بيضة الإوزة وأعطيتها له ،
وتبادلنا نظرة صغيرة نهضت على أثرها قلت :
- لنجلس خارج الكوخ لأكون على مقربة من
أغنامي .
خرجنا سوياً فتلامست أكتافنا ، جلست فوق
شاطئ الترعة، وجلس هو فوق حجر كبير مقابل لي ،
قال :
- سمعتِ أغنية عبد الحليم الجديدة ؟
- سمعتها أمس في " صوت العرب "
- سمعتيها كلها ؟
- وحفظتها .
-
سمعتيه وهو يقول : " السما بتبكي علينا
والناي حزين " .
-
سمعته يا مسعود ، لكن الناي الذي معك ليس
حزيناً وكل النايات التي تصنعها أنت والعم
حجازي رائعة ومبهجة وأنا أحبها .
شجعه قولي هذا فاحضر نايه من الكوخ ، وأخذ
يغرد وهو مغمض العينين ، همست بداخلي : "
أحبك يا مسعود ، أحب كوخك الأخضر الصغير ، أحب
صوتك المبلل بحنان العالم ، أحب نغمات نايك
الشجية " .
حين أكمل عزفه الدافئ وددت لو أقفز على
قدمي لأطوق بيدي عنقه ، وأقبل جبهته ورأسه .
كان " الجدي " الصغير بجواري يقفز
برشاقة في الهواء ، إلتقفته بيدي وقبلت رأسه
الصغير ، وبدافع تلقائي أخذه مسعود وقبله في
نفس موضع قبلتي ، وتبادلنا نظرة سريعة خجلى
دافئة، جلس من فوره على الأرض ، أمسك بقطعة
حطب صغيرة وقال لي :
- انظري كيف سيكون بيتنا .
أخذ
يرسم ، ويعلق ، ويشرح :
- هنا المدخل .. وسأزرع لك أمامه كرمة عنب ،
وهذا النصف من البيت سيكون لنا ، والنصف الآخر
للقمر .
ضحكت .
قال موضحاً :
- سأسقف نصف البيت ببوص الغاب ، والنصف
الثاني نتركه عارياً للقمر لكي يبيت
معنا فيه .
ثم غمز لي بإحدى عينيه وقال :
-عندما أعزف لك بهذا الناي .. سقف البيت
سيغني لك " يا عين يا ليل " .. ستلتحم
نغماته مع نغمات هذا الناي ، ويصير سقف البيت
غناء ، وسوف أحيطه بأشجار اللبلاب لتكسوه
بثوب أخضر جميل .. ما رأيك ؟.
اهتف من أعماقي من فرط سعادتي : " أحبك
يا مسعود .. أحبك .. آآآآآآآه سيكون بيتنا رائع
.. رائع جداً والله .
***
في
طريق عودتنا مررنا بتلك الصفصافة التي تنحني
فوق الترعة تأخذ شكل إنسان ينحني ليشرب ، حتى
أن غالبية فروعها تلامس الماء .
قال مسعود :
- تأملي الصفصافة ، خمني ماذا تقول للترعة
؟ .
- هي لا تقول شيئاً يا مسعود ، هي تنحني
لتشرب .
ضحك ، وهز رأسه بالنفي ، فقلت :
- لتغسل شعرها .
- لا .
- هي تلعب مع الأسماك الصغيرة .
ابتسم وأغمض عينيه وهز رأسه بالنفي من
جديد .
همست :
- لترى
وجهها في الماء .
ابتسم بعينيه وأعاد عليَّ السؤال :
-
ماذا قالت الترعة للصفصافة ؟. .
- يووووه .. أنا لا أعرف ، قل أنت !!.
يلتفت يمينيا ويساراً ويبتسم وقد كسى وجه
الحياء ، ويقول:
- هي تقول للترعة : الولد مسعود حجازي أبو
علم يعشق بجنون تلك البنت الوردية الحورية ..
صالحة محمد إبراهيم أبو شبل .
***
عندما أعود إلى البيت استرجع على مهل
كلماته وأتذوق حلاوتها قطرة .. قطرة ، ستصبح
اللمبة نمرة خمسة قوية الإضاءة كألف كلوب ،
كقمر في ليلة تمامه ، وستغدو المصطبة القاسية
طرية ، طرية كالقطيفة ، والحِرام الصوفي
الخشن حرير في حرير
في حرير
في
......