2
سعيدة كنت في هذا المساء ، فقد ولدت نعجتي
شاة بيضاء كلوزة القطن ، رأسها مدور جميل ،
لها أذنان صغيران سوداوان،وعينان بنيتان
واسعتان رائعتان ، وأربعة أرجل دقيقة.
العم " شنودة " هو الذي أشرف على
ولادتها ، ودعك أنف الشاة بالبصلة ، وقام
ليغسل يده عند طلمبة الماء .
شقيقي " مهران " أمسك
بيد الطلمبة وراح يدر الماء لعم شنودة
بينما عيناه تسترقان النظر إلى " تريزة "
ابنة العم شنودة، محبوبته الصغيرة الجميلة
التي يملأ الوسائد والجدران - أحياناً -
والكشاكيل بصورها التي يرسمها لها بأوضاع
مختلفة ، وتشكيلات رائعة .
جميلة جداً تريزة بوجهها الأبيض المستدير
، وشعرها الأحمر المجعد ، وفمها الدقيق ،
وجسمها اللدن الحريري ، وذقنها الصغير .
عندما كان مهران صغيراً .. كان يقول للعم
شنودة :
- سأتزوج تريزة يا عم شنودة .
فيقول له العم شنودة مبديا جدية على وجهه :
- موافق على أن أحدكما لابد وأن تقطع أذنه .
- لم َ؟ .
- لأن لكل منكما ديانة مختلفة ، أنت مسلم
وهي مسيحية .
تحتج تريزة وتقول :
- إذن تُقطع أُذن مهران لأنه ولد ولا يضع
قرطا في أذنه .
ويبتسم العم شنودة .. بينما مهران يتحسس
بقلق أذنه ، ثم يوافق في نهاية الأمر .
***
جفت الشاة الصغيرة بعد أن علقتها أمها
جيداً .
قامت أمي بعجن قليل من الحناء
ووزعته بحكمة على جسم الشاة .
في الصبح سيكون لونها مزركشا .. جميلاً ..
أبيض .. أحمر ، أسود
جدتي والعم شنودة حذرا أمي من الحسد .
صعدت لأفترش السطح ، هذا الأسبوع تقوم
تريزة برش السطح بالماء ، وتملأ القلل ، بينما
أقوم أنا بكنس السطح ، ثم أفرشه بعد ذلك
بالحصر والسجاد القديم ، غداً سينتهي الأسبوع
ونتبادل المهام .
جلست فوق الجدار الهش المتآكل الذي لا يصل
إلى منتصف الساق ، والذي يفصل سطح بيتنا عن
سطح بيت العم شنودة (هو لا يفصله .. بل مجرد حد
ضئيل .. غير معترف به ) .
نظرت للسماء زرقتها لم تتلاش بعد .. أمواج
الليل السوداء سوف تغطي تلك الزرقة بعد قليل ،
ماذا أقول لمسعود في صباح الغد ؟ أيكفي أن
أقول له أنت حبيبي يا مسعود .. ثم أبتعد قليلا ً
.. وأغني له إحدى أغنيات " شادية " !! . ولكن
الكلمات التي تتغنى بها شادية ليست كمثل الذي
أحمله لمسعود في صدري .
حبيبي لو كان بمقدورك أن تنظر في قلبي ،
كما يتسنى لك النظر في عيني لرأيت بعيني رأسك
أن ما يكنه لك القلب من محبة لا تقوى أجنحة
الكلمات على حمله إليك يا مسعود .. ولا حتى
الأغاني .
الجو الحار الخانق ، ورائحة " السباخ
" التي تزكيها حرارة الطقس ، والأبواب
الموصدة ليلاً .. جعلت أفراد أسرتي وأسرة العم
شنودة ، يفرون إلى السطح الذي فرشته منذ قليل .
في أحد الأركان .. جلست أمي وأختي الكبرى
" زينب " والتي تليها " أمينة " و
الخالة " مريم " و ابنتها الكبرى "
فيكتوريا " والصغرى " تريزة " ، تأخذ
جلستهن شكل دائري قمري ، يضعن بينهن كومة قطن
ينتزعن بذورها لتكون جاهزة
عندما يقبل الشتاء لعمل اللحافات الطرية
الدافئة ، بجوارهن تجلس جدتي يحيط بها أخوتي
الصغار " محمود وعيد وهمام ، وأيضاً أبناء
العم شنودة الصغار " نادي وسمير .. وكثيراً
ما ننضم إليهم أنا وتريزة ، ولأسلوب جدتي
وصوتها وأدائها في سرد الحكايات سحر خاص ولها
قدرة على أن تمنحك جناحي خيال ، يأخذانك إلى
عالم حواديتها الغامض الساحر المثير .. معها
تقصر الليالي وتروق الأمسيات ، غير أنها
أحياناً تتعكر من جراء تصرف وقح قليل الحكمة
يصدر من أحد الأولاد . إذ يعطي لنفسه الحرية في
إخراج ما في بطنه من غازات ذات رائحة كريهة في
غير وقتها .. وغير مكانها ، مما يجعل جدتي تمسك
بأنفها وهي تتأفف وتمسك أيضاً عن إكمال
حكايتها ، وتقسم بالله ،
وبرحمة جدي وعمي " يحيى " بأن السبب
الحقيقي في إضعاف بصرها هي تلك التصرفات
الوقحة من أولاد بائخين ، قليلي الحياء ، على
أن الشخص الذي فعل تلك الفعلة الغبية لا يمر
أبداَ دون عقاب من باقي الأولاد .
وفي المربع الواسع البعيد عن " الفرن
" وعشش الدجاج ينام وبناني الحمام . يجلس
العم شنودة وفي يده مغزله يستخدمه بمهارة
فائقة .. يحيل بواسطته كتل الصوف الجامدة الى
خيوط رقيقة ، وقد قرب من اللمبة نمرة عشرة ،
وعلى يمينه يجلس أخي مهران وجرجس ابن العم
شنودة ، ويغيب عنهم أخي الأكبر هلال الذي يقضي
الخدمة العسكرية ، والذي قطع إجازته ليبيع
محصول " اللوف " في القاهرة ليسدد إيجار
الستة قراريط للباشا .
في الجانب الأيسر جلس أبي وفي يده "
الجوزة " التي يتعلق بها كما يتعلق الطفل
بثدي أمه لا يتركها إلا قليلا ، يطمئن على
سلامة الغابة والحجر ، ليهيئ لنفسه بواسطتها
أمسية معقولة ، ويدفع صوته محتجاً على تأخر
الشاي والقوالح المحترقة التي سيستخدمها
للجوزة ، ويقول :
- استشعر هنا بُخلاً نسائياً متعمداً ..
ويعلم الله أن عواقبه قد تكون وخيمة عليهن .
ويعقب العم شنودة قائلاً :
- على انك لابد
وأن تعترف بأننا كبرنا .. ولم يعد لدينا ما
يحفلن به !! .
ثم همس في أذن أبي بعبارة ما .. جعلتهما
يضحكان ، بينما غمزت أمي والخالة مريم يخفيان
ابتسامتهما في طرف طرحتهما.
غمزت أمي " أمينة " فنهضت من فورها ،
وضعت إبريق الشاي الألمنيوم فوق الكانون
الصغير ، وأوقدت فيه قوالح الشامي لكي
يستغلها أبي لتعمير الجوزة ، أما "
فيكتوريا " فقد جاءت بصنية البلح المغسول ،
وثلاثة أقراص من عباد الشمس الجاف ، فركتهم
الخالة " مريم " في حجرها .. ووزعت علينا
البلح ولب عباد الشمس .
الليل يطوي ببطء ببساطة ، ويأخذ تدريجيا
في الرحيل .. وتنهيدة " مهران " أحسها تخرج
من قلبي أنا ، يردد بعض الشعر القديم :
ياليل
الصب متى غده
أقيام الساعة موعده
رقد
السُمَّـار فأرقـه أسـفٌ للبين
يردده
لم أكن أعرف معنى هذا الشعر لولا شرحه
مهران ، ولولا وجود تريزة ما شرح لي أبداً .
قرب الفجر لا تبقى امرأة أو بنت فوق السطح
، يخلو المكان تماماً للرجال والأولاد.
استيقظت على صوت أبي المضطرب ، وكانت عيني
قد غفلت قليلاً ، سمعته يقول لأمي :
- سمعت طلق ناري مكتوم ، هناك جريمة قتل ،
يبدو أن " عبد الرؤوف أبو شيبة " قد سقط
الليلة في أيدي المرازيق ، لاحول ولاقوة إلا
بالله .
لم تمض دقائق إلا وإنطلقت الصرخات
الحارقة تشق قلب السماء وعلا الصخب وارتفعت
الدمدمة في كل بيت .. واستيقظ طفل القرية كما
استيقظ كبيرها . هناك من خرج يركض خلف
الكلوبات المضيئة المتجهة نحو مكان الحادث ..
وهناك من آثر السلامة .. وفضل عدم الخروج حتى
ينشر الصبح ضياءه ، وتحضر الشرطة لتحقق في
الحادث .
شقيقي مهران لم يطق صبراً ، وانطلق إلى
مكان الحادث ، وكذلك أبي .
قالت جدتي وهي تهرش في شعرها الأشيب الفضي
وصوتها المفعم بالنعاس :
- عبد الرؤوف يستحق القتل ، فقد سبق وقتل
" أبو رحاب " وهو في مقتبل العمر .
قالت أمي :
- أبو رحاب كان سليط اللسان ، قاسي القلب ..
عنيد .. رفض مراراً أن يروي حقل عبد الرؤوف
بماكينته ، مستغلاً بذلك عدم وجود ماكينة ري
أخرى غير ماكينته ، فأضاع عليه محصول الشمام ،
وكل هذا لأن عبد الرؤوف رفض أن يزوجه من أخته
وهو محق في ذلك . ومن يومها وهو لايكف عن
إيذائه وإلحاق الضرر به .. مما دفع الأخير في
آخر شجار دار بينهما أن يخرج " الفرد " من
جيب " الصديري " ويوجه طلقة نارية في رأس
" أبو رحاب " ليرده قتيلاً داخل ماكينة
الري ثم قام بتسليم نفسه للعدالة لكي يقيها شر
الثأر . لكنه في النهاية لم يفلت من مصيره
المحتوم .
عاد مهران للبيت أما أبي فلم يعد بعد .
كانت عيني مهران متورمة من شدة البكاء . تعلقت
أعيننا به عند دخوله لم ينطق بكلمة واحدة ،
جلس فوق المصطبة وشبك يديه خلف رأسه ومال
للخلف حتى أرتطم رأسه بالجدار ثم انطلقت من
فمه عدة رصاصات ثقبت صدري واستقرت وإلى الآن
في قلبي : " حجازي أبو علم هو الذي قُتل ..
قُتل بطريق الخطأ ، لقد إلتبس عليهم الأمر لما
رأوا العم حجازي يمر من أمام حقل " عبد
الرؤوف " وفوق كتفه حزمة كبيرة من بوص الغاب
، ظنوا بغبائهم أن الأخير يقوم بحصاد الذرة
ليلاً خشية غدرهم ، فانطلقت رصاصاتهم الغبية
لتستقر في صدر العم حجازي ، الطيب ، صاحب أجمل
نغمات ناي ، الذي علمنا جميعا فن الغناء عقبت
جدتي وهي تهز رأسها أسى وحزن :
- ليل القتل أسود القلب وبغير عيون .
***
لم أنس ما حييت وجه مسعود في ذلك اليوم
المعتم ، وانبطاحه الجنوني فوق صدر أبيه ،
وصرخاته التي تذيب الكبد وتفتت العظام ..
وأبداً أبداً لن أنسى لحظة أخذوا جثة العم
حجازي إلى الوحدة الصحية ليتم تشريحها .. وقد
حمله الرجال فوق أكتافهم .. بينما أمه تفتح
ذراعيها وقد غطى الطين وجهها ورأسها وتساقط
فوق صدرها وكتفيها . يومها ارتمى مسعود في
حضنها وهو يصرخ :آآآآه ، وقد تلطخ جلبابه
المخطط بلون الحقل ولون الفجر ، تلطخ بدماء
أبيه ، وبالطي الذي تحمله
أمه .
واندفع مسعود يجري بغير هدى ، يسقط وينهض
، وأنا خلفه أجري ، أسأله وجهته ، أحاول
تهدئته بكلام غبي غير منظم ولا يجدي في مثل
حالته .. كل ما قاله لي وهو يقفز في الأتوبيس
الأخضر الوحيد الذي يمر على قريتنا : انه
سيعود بعد أن يعمل حتى يوفر ثمن بندقيته ،
ويجيد استخدامها ليقتص ممن أخذوا منه والده
بغير ذنب جناه .
ومن يومها لم يعد مسعود .. منذ أن رحل لشراء
بندقية ، أتراه يعلم الآن أنه يحتاج لألف
بندقية ؟؟ .
لابد وأن يعلم ..
والآن
.. أيصعب عليكم العثور على مسعود .