غابة الدندنة .. الموقع الرئيس للشاعر المصري علاء الدين رمضان ، ووكالة آرس للبحوث والترجمة والنشر والخدمات العلمية والثقافية يتمنيان لكم المتعة المفيدة مع قراءة هذه الرواية للأديبة المصرية المعروفة الأستاذة جمالات عبد اللطيف محمد

كن للقريب شمعة وللبعيد فناراً يضيء ( الشاعر : علاء الدين رمضان)ـ

غابة الدندنة

وكالة آرس للبحوث والنشر

قسم الخدمات الثقافية 

الرواية

يا عزيز عيني

الفصل الرابع
الإعلان


4

   في ذلك الصباح كنت أشم رائحة مريبة ، فليس من عادة عماتي الثلاث أن يجتمعن في البيت ، ويشمرن عن سواعدهن إلا حين تكون هناك مناسبة تستحق جهدهن .. وليس من عادة أبي أن يذبح " جدي " في غير الأضحية ، وأمي تتحاشى الجلوس معي ، وزينب تعمل في صمت دون افتعال مشاكل مع أمينة ، وحين تدخل أمينة لتأخذ شيء من المندرة التي سمحوا لجدتي بالبقاء معي فيها ، تتحاشى النظر إليَّ ، وتتجاهل عن عمد ، وتتجاهل عن عمد أسئلتي القلقة ! .

       وأبي الذي كان يلفظني تماماً، بدا عطوفاً معي ، شعرت بأن هناك سكيناً تبرق من وراء أسنانه ، انكمشت لما اقترب مني ، وأسقط رأسي بين ركبتي .

     هل سينهال على رأسي بفأس يخبئه خلف ظهره ، شعري الصغير توقف حين اقترب أكثر حتى أن ذيل جبته قد لامس قدمي ، حين وضع كفه الكبير على رأسي لم استطع مقاومة رغبتي العارمة في البكاء ، شلال جرف في طريقه كل محاولة للسيطرة عليه ، ربت على ظهري ولما اصطدمت كفه بعظامي الناتئة ، رفعها بسرعة عن ظهري ، فما أصاب جسدي من هزال لهو دليل على إدانتهم جميعاً.

     لا أدري ما الذي كان يريد أن يقوله لي أبي في هذا اليوم ، وكلما هم بالحديث إليَّ -لسبب في نفسه - يبتلع كلماته قبل أن يبوح بها .

     حتى لحظات العطف صرت أخافها ، وأشعر أن وراءها كارثة أكثر قسوة من قسوتهم هذه ، ترى ماذا سيفعلون بي ؟ سؤال يفتح فاهه الكبير ، يغرس أسنانه في لحم وعنقي ، ورأسي ، تقطعني أنيابه ، تطحني ضروسه ، ثم يلفظني كتلة لحم ودم وعظام وأعصاب مكومة فوق فراش أكثر خشونة من طبائعهم .

***

     أحضرت عمتي " رئيفة " الطست النحاسي الكبير وإناءه الذي ملأته ماءً دافئاً .. وأغلقت علينا الباب وأصرت على أن تقوم

هي بإحمامي .

      لم تفلح كل توسلاتي في ثنيها عما انتوته ، وأقسمت برحمة جدي أنها لن تغادر تلك المندرة إلا وقد صار جسدي براقاً كالمرآة .

     هذا الجسد الصغير لم يعد سِرياً ، الخاص شديد الخصوصية .. الذي لا تجرحه أية عين .. غير عيني أنا ، من أباح لهؤلاء أن يكشفوا عن جسمي ، ويغرسوا عيونهم في لحمي ؟

     مسعود .. ألست معي بأن اليد التي تحطم حياءك .. ذلك الغلاف البلوري الرقيق الذي يحيط بكينونتك الصغيرة ، والذي يحفظ بدوره مجمل الأحياء .. وكل الكائنات الجميلة التي تعيش فيها والقابلة للموت الفوري إذا ما تحطم هذا الغلاف بفعل يد عابثة أو عين جارحة وقحة ، ألست معي بأن تلك اليد غير الكريمة تستحق البتر ؟ ألست معي بأن تلك العين غير الأخلاقية تستحق الفقء .

     ألبستني عمتي ثياباً جديدة ، وأثقلت عنقي بعقود كثيرة وملونة ، وملأت كلتا يدي بالغوايش ، وخنقت أناملي بالخواتم الفضية الثقيلة ، ولم يفتها توبيخي على تسرعي في قص جدائلي لأن الشعر على حد قولها ثلث الجمال ، ولكنها عالجت الأمر بطريقتها الخاصة ، ثم أشهرت في وجهي خلخالاً فضياً ، وارتفعت في الخارج طبول الموت تقرعها أيدي وحشية ، وانطلقت الأعيرة النارية تشق صدري ، وطاحت الزغاريد تجلجل من أفواه بليدة لا تشعر مطلقاً بعذابي .

      وكأني سقطت في بركة دماء ، أنت تعلم أن الخلخال يوضع في ساق البنت حين يقترب موعد زفافها لكي تعتاد عليه ، فلا يؤثر على خطواتها وهي عروس ، خاصة أنها ستكون محط أنظار الجميع .

     باعني المأذون بعشرين جنيه ، و" كيلة " بلح ، وقَبِلَ أن يوقع أحد الحضور نيابة عني ، وباعني طبيب الوحدة الصحية بإوزة محمرة بالسمن البلدي ، وقَبِلَ أن يعطيهم شهادة ميلاد مزورة تحمل عمراً هو ليس عمري .

     ما أرخصني .. ماااا أرخصني ..

     صرخت وقد سقطت أرضاً واستحالت دهشتي إلى جرثومة . أخذت تلتهم خلايا عقلي بلا رحمة ، بلا شفقة ، بلا هوادة .

زوجة عمي .. تلك الساحرة الشريرة .. ذات العينين الضيقتين الماكرتين والحاجبين الضعيفتين اللذين تعمل فيهما القلم الأسود المخصص لذلك ليكونا في صورة أفضل مما هما عليه .. أخذت تبتسم ببرود فتظهر أسنانها المعدنية الشرسة ، تقول لي في تحد ممجوج :

     - كلام الرجال مر كالسكين فوق عنقك العنيد .

     ثم توسطت حلقة النساء ونظرت لي شذراً وقالت :

     - هذه الصفراء المعصعصة لا يعجبها ولدي ، مع أنه بمقدوره أن يأتي بست ستها ، لكنا أردنا أن نَـلُمَّ عارنا ونسترها في بيت عمها .

      سمعتها جدتي ، و كانت تجلس في أحد الأركان تقشر الثوم في حجرها ، فلملمت بإحدى يديها حجر جلبابها ، وباليد الأخرى تناولت “ النشابة “ من يد زينب .. وكانت الأخيرة تقوم برق الفطير ، وجاءت مسرعة وقد تناست أورام ساقيها المتضخمتين ، ولكزتها في ضلوعها بالنشابة وهي تصرخ :

     - لماذا لا تغلقي فمك الأبخر الكريه هذا ؟ حتى لا أغلقه بِبُـلْغِتي هذه .

     تلك المرأة البغيضة لم تطق جدتي الحياة معها يوما واحدا ، وفضلت الإقامة مع أبي ، انفضت النسوة من حولها ، واستدارت جدتي وهي تمتم بكلمات تقطر غضباً ، تخص بها زوجة عمي ومن تصغي إليها .. ثم تركت المكان وقد أخذت خطواتها شكل الواثق المتمكن كامرأة عظيمة لم تزل تسيطر على بعض الأمور.

***

      تفتقت عيناي عن دمعتين كبيرتين ، لما رأيت “ هلال “ قادما نحوي ليودعني بزيه العسكري الكاكي المميز المحبوك على فخذيه ليبين بما يدع مجالاً للشك قوتهما ، وقد شمر عن ساعديه القويتين .. ولمعت في وجهه ابتسامة واثقة أظهرت أسنانه العريضة البيضاء وأظهرت ما يتمتع به من صفاء النفس ، وود دافئ رقيق .

     تعلقت جدتي بعنقه وأخذت تقبل وجهه الأسمر المشرب بالحمرة الرائقة تغني بصوتها العجوز أغنية من قريحتها :

                                   طلـع الولـد قـبل النـهار ما يتـولد

                                   رايـح يجيب الشمس قبـل ما تتـولد

                                   يغسل في نـدى فجـره تـوب البلـد

                                   يمسح غـبار الهم ويزهر عمامة البلد

     قَبَلَ يديها المعروقتين العجوزتين ، ورأسها الأشيب وراح يداعبها كعادته :

     - دعواتك يا أحلى الصبايا .

     ثم أخذني تحت جناحه وسار بي إلى ركن بعيد ، خطواتي يثقلها الحزن ، وضياع الحلم ، وذلك القيد الثقيل الذي يكبل قدمي ، قال لي :

     - لا تقسي على أبيك يا صالحة ، فله عذره ، وتذكري كم هو طيب معنا ومعك بالذات ، نحن نضحي بأرواحنا من أجل من نحب ، ولأجل الواجب ، قد تقوم الحرب بيننا وبين إسرائيل وأموت شهيداً ، فإذا ما أزلتِ آثار الدماء من على وجهي ، فسوف تبدو لك ابتسامتي الراضية ، رضا المؤدي واجبه ، المضحي لأجل من يحب .

     قلت بعناد :

    - أنت حين تحمل روحك فوق كتفك ، وتحارب إسرائيل ، وتضحي من أجل أشياء غالية ، أنت تقاوم الظلم ، اسرائيل قتلت عمي " يحيى " وهدمت بيوت كثيرة من بينها بيت خالتك في السويس ، وشردت أهل هذه المدينة وغيرها ، وقتلت أطفال المدارس ، وأخذت أرضنا .. أما أنا من أجل من أضحي يا هلال ؟ من أجل من ؟؟‍ .

     قال وهو يربت على كتفي :

     - لأجل والدك ، لكي تكون رأسه مرفوعة بين العائلة وأهل القرية .

    بكيت ، فقبل جبهتي ، وقال :

     - لن أصوم معكم شهر رمضان ، لكن بإذن الله سأكون معكم في العيد ، ماذا تريدين من المدينة  لأحضره لك ؟

     - في سفرياتك المتعددة اشتريت لي الكثير من قوارير العطر ، وأمشاط الشعر ، ومناديل الرأس ، والمكاحل .. لا أريد إلا سلامتك من كل سوء .

    ضحك وهو يداعبني :

     - سأشتري لك فستان " بندري " مثل فستان البنت تريزة الذي حضرته لها عمتها ، ما رايك ؟ .. سوف أقدمه لك في يوم فرحك .

    - أنت تعرف بأنه سيكون يوم قهري وظلمي وقتلي .

     ظلت رأسي أسفل ذقنه الدافئ برهة ، وقد زفر بعمق ، وحرقة ، وهمس في لحظة ضعف إنساني نادرة :  

     - أعرف ما في صدرك الموجوع من مرارة وحزن ، وأريدك أكثر صبراً مما أنتِ عليه .

     قلت بإصرار :

     - والدك علمنا أن الصبر على الظلم عار ، ألم يقل هذا عندما هم بضرب جاره في الحقل الذي تعود أن يجنح بالبطال على حقل أبي فيسرق منه قبضة أو أكثر ، يومها قال له عمي :

     - انتظر الصبر طيب ، تعالى اجلس وأهدأ ثم لنرَ .. إذا لم تجدِ معه الكلمات الطيبة ، نتقدم بشكوى ضده .

      ولكن رفض ذلك بشدة وقال :

     - الصبر على ضياع الحق غير مجدٍ .. فهو ابن كلب ولن اسكت عليه .

     ابتسم هلال لما تذكر هذه الواقعة ، وأمسك برأسي بيديه وهو يقول :

  - معذبون كل من يملكون رؤوس عنيدة كتلك الرأس .

     ناداه أبي فأخرج من جيب سترته منديلاً أبيض وجفف دموعي ، وتركه لي .

     أمي وجدتي وزينب ومهران أحاطوا به وهو يهم بالخروج من الدار .. وارتفعت دعوات أمي وشقيقتي وجدتي بالدعاء له .

     لم ينس أبي أن يشحذ من عزيمته وهو يقول له بحماس :

     - وطنك يلطخه العار ، قل للسادات دعنا نحارب لنغسل ثوب العار .. ولا تنس يا هلال دماء عمك ”يحيى“ الذي قتله اليهود وانكوت قلوبنا بناره ، لا تنس ثأرك يا صعيدي .

     مضى بثبات تودعه عيوننا ، ودعواتنا له نخيل وسيسبان وكرمة عنب تظلل طريقه من هنا إلى السويس .

 

المؤلفة
من سيرة الكاتبة : جمالات عبد اللطيف

جمالات عبد اللطيف 

وكالة آرس
للبحوث والنشر والخدمات العلمية والثقافية

القاهرة 2002

أكتب تعليقك .. شاركنا المودة والرأي
أكتب للأديبة

منعطف الرواية

غابة الدندنة : موقع الشاعر علاء الدين رمضان .. .. الإبداع الأدبي .. قسم الرواية   الفصل الثالث

وكالة آرس للبحوث والترجمة والنشر والخدمات العلمية والثقافية

الكاتبة

7 6 5 4 3 2 1

مدخل

غابة الدندنة : موقع الشاعر المصري علاء الدين رمضان

الفصل الخامس

الفصل الأخير

محصي الزائرينأحتكم إليك في أمري .. فدع صوتك الحر يصل إلى أذنيأَرِنِي بعينيك .. يا صديق .. أسمعني صوتك الحر براح للمشاركة .. أكتب لنا مباشرة من خلال الموقع دون بريد إلكتروني محصي الزائرين
وكالة آرس للبحوث والنشر والخدمات العلميةعلاء الدينشبكة الأخوين الثقافية

بحوث ودراسات

كتاب الرواية والقص .. منعطفات النثر من الأعمال المسرحية للشاعر علاء الدين رمضان صهيل القصائد .. صفوة الشعراء العرب وعيون القصائد العربية الخطو على مدارج المدينة القديمة ، ديوان شعري للشاعر علاء الدين رمضان ، الطبعة الأولى 1993 ، منشورات اتحاد الكتاب العرب بدمشق
الموقع .. أخبر به صديقاً كتاب الزائرين .. وثائق المحبة  ونكهة الوداد .. انقش رسم الخطى وظلاً في البراح مع الزائرين .. فأقم في كتاب الزائرين .. ولا تكن عابراً في المقيمين .. Counter محصي الزائرين Free Translation from Arabic to English and from English to Spanish, French, German, Portuguese, Italian and NorwegianFreeTranslation.com - Free Translation from Arabic to English and from English to Spanish, French, German, Portuguese, Italian and Norwegian المترجم أقوى معين لفهم محتوى الصفحات يترجم من العربية إلى الإنجليزية ومن الإنجليزية إلى معظم اللغات ذات الأصل اللاتيني فضاء السيرة الذاتية للشاعر