مسعود
حين يكبر الحزن يصير كوكباً مغلقا عليك ليس
رفيه سواك من البشر ، وقد أضحت سماؤه مشققة ،
ملأى بالشروخ ، آيلة للسقوط ، وقمره جليد
تخترق برودته عظامك ، ويتجمد بفعلها لحمك ،
ونجومه كرات من الجمر تلهو بها شياطين الجن ،
وترميك بها أينما تولي ، وتطاردك الطيور
الجارحة ولا ترضى عن رأسك المثخنة بالجراح
بديلاً لغذائها ، والنباتات السامة يغريك
اخضرارها بالاقتراب ، لتقضي نحبك بين غصونها
، وعيون الماء تعج بالديدان الصغيرة ،
والبحيرات تمتلئ بالتماسيح الفتاكة والقواقع
توحي إليك تركيبها بأنها ملأى بالحيوانات
الصغيرة الشريرة .
هذا الكون الذي لن يرض بغير هلاكك ، والذي
صاغته في الظلام أيادٍ كثيرة نبتت في بركة
دموعك التي لم تجد من يجففها لك !
ذلك الكوكب لن تفلت منه إلا حين تمدك شمس
الفرح بشعاع ذهبي تتسلقه فيلقي بك إلى عالم
الأحياء حيث الأهل والأصدقاء والأحبة ، وصياح
الديكة ، وهديل الحمام ، وسنابل القمح ،
وضفائر البنات يطيرها الهواء ، وغناء
الفلاحين ، والفراشات ، وضحكة الأولاد .
حين يكون الفرح كبيراً وعاماً .. تأخذك
أياديه القوية بعيداً عن كل ما يخيفك ، يؤلمك
، يعذبك ، بعيداً عن حدود ذاتك الضيقة العتمة
الملأى بالأشباح .
هذا ما أحدثه انتصار أكتوبر .
هذا الحدث وإن عمت فرحته في كل بيت من بيوت
قريتنا ، إلا أنه كان له وقع شديد الخصوصية في
بيتنا ، فهي مسألة ثأر كما كان يردد أبي وكل
أهل الدار والعائلة .
عمي يحيى لم يغب يوما عن مخيلتنا ، لم نكن
نعرف معنى سياسة وصراع بين شرق وغرب ، عرب
ويهود ، ولكن بدأنا نسأل عن معنى استشهاد ،
وكيف استشهد عمي يحيى ، ولماذا؟ ومن قتله ؟
وفي أي أرض ؟ ... وبدأنا نعرف الكثير عن فلسطين
، وعرفنا أن الكون أكبر كثيرا من تلك الجبال
التي تحد حقولنا .. وأخذنا نقلد الكبار في
الإصغاء لخطب الرئيس ، ونشرات الأخبار ،
وتحفظ الأغنيات الوطنية ، ونرددها بحماس شديد
.
تُرى كيف عشت هذه اللحظة يا مسعود ؟ وكيف
كان رد فعلك ، هل رقصت ، غنيت ، بكيت ، تناسيت
ثأرك الصغير ، وحلمت بالعودة لتحتضن الجميع ،
هل بحثت عن أحد البنايات لتعزف شيئاً مميزاً
تهتز له خصور النبات وأفرع الشجر ؟ هل ألقيت
بنفسك في أحضان المارة وقد غمرك شعور بأنهم
ليسوا غرباء .
أما عائلتي فقد أقامت فرحا كبيرا .. دعت
إليه كل أهالي القرية ، وقد صممت جدتي على
الوفاء بنذرها ، وبينما دقات الطبول تعلو ،
وفتيان القرية يقومون برقصات جماعية ، أرتدت
جدتي فستان عُرسها القديم الموشى بالترتر
والخرز الملون البراق ، وقد احتفظت به نظيفا
براقا متألقاً .. رغم مرور كل هذه الأعوام
الثقل ، وقد تحلت بخلخالها وأساورها الفضية
وقرطها الذهبي ، وكانت قد خلعتهم بعد استشهاد
عمي يحيى ، ووفاة جدي بعده بشهور قليلة .
وخرجت جدتي وسط تهليل الفتيان ،
وأشارت بيدها فتوقف الطبالون وقالت :
- عرسان الجنة يرقصون اليوم في السماء ،
يتوسطهم ولدي يحيى ، فلنشاركهم فوق الأرض
رقصهم وفرحهم .
هلل الفتيان وهم يلوحون بعصيهم ، وتحلقوا
حولها وقد تشابكت الأيدي ، وتوسطتهم جدتي وهي
ترقص كمُهرة رشيقة وقد تحررت تماما من آلامها
الروماتزمية ، وانتصرت على قوى المرض التي
تعشش في صدرها منذ سنوات فتضعفه ، وتجعلها
تلهث من أقل مجهود تبذله ، تغلبت حتى على
سنوات عمرها ، فمن يراها الآن وهي ترقص بهذه
الروح القوية الرشيقة الخفيفة ، يظن أنها
شابة لم تتجاوز العقد الثالث من العمر .
ظلت ترقص حتى الساعات الأولى م الفجر إلى
أن سقطت على الأرض فلما أنكبوا جميعاً عليها ،
همست :
- أنا بخير استمروا في رقصكم .
حملها أبي إلى البيت وكان العرق يتساقط من
جسدها غزيراً بارداً ، وبعد أقل من ساعة لفظت
أنفاسها الأخيرة وهي في ثوب عُرسها ، وملامح
وجهها راضية .
***
فوق السطح كانت تريزة تتدرب على السير
بالحذاء الحديد ذي الكعب العالي المدبب ن
وكانت تتمايل يميناً ويساراً ثم تسقط أرضا
وتنهض ويكاد يغشى عليها من شدة الضحك ، لما
رأتني خلعته من قدميها وهي تغالب ضحكها ، قالت
:
- ابن الكلب هذا اسقطني فوق السلم خمس مرات
، وفوق السطح ثلاث ، ابن الملعونة سيفضحني
ويجعلني أضحوكة لأهل البندر .
قلت بتأثر :
- سترحلين ويخلو المكان بدونك ياتريزة ؟
قالت وهي تمسك بيدي :
- والله لو كنت أعرف القراءة والكتابة
مثلك لأرسلت لك في كل طلعة شمس خطاب .
سادت بيننا لحظة صمت ، سمعنا خلالها "
مختار الزقم " ينادي :
- زبل حمام بعنب .. زبل بعنب ..
استوقفته تريزة ، ونظفت بسرعة بناني
الحمام من الزبل وعبأته في قفة قديمة
واستبدلتهم بعناقيد العنب وغسلتهم وجلسنا
نأكل ، قالت تريزة :
- لتذكريني كلما مر مختار بقفص العنب .
كانت تلتهم حبات العنب ببطء ، فجأة توقفت
عندما هطلت الدموع من عيني ، عانقتني ، بكينا
.. بكينا بحرقة .
الآن فهمت لماذا الشرع يحرم زواج أخوة
الرضاعة ، الآن آمنت بأن عملية الرضاعة تحدث
تآخي لا ريب فيه .
كنت كثيراً ما اسمع أمي تقول :
- تريزة أختكم .
وكنت اعتبر هذا القول لا يتعدى حديث الود
والمجاملة ، لا أنسى ذلك اليوم الذي تشاجرت
فيه مع تريزة ، وكان ذلك عقب استطلاع رؤية
هلال رمضان ، وكنا نجوب القرية نغني : ((وحوي
ياوحوي )) ..
قلت لتريزة :
- هل لصيامكم رؤية هلال وبهجة وغناء مثل
صيامنا ؟
- صيامنا أحسن من صيامكم لأننا نأكل ونشرب
ولانعُذب مثلكم بالجوع والعطش .
- ولكن عند غياب الشمس نأكل كل ما نشتهيه ،
أما أنتم فتحرمون من أشياء كثيرة .
- هل تعني أن دينكم أفضل من ديننا .
- بالطبع .
- أنتم معكم محمد فقط ، أما نحن فمعنا
المسيح والعذراء .
- بل معنا محمد وموسى وعيسى وإبراهيم
والعذراء و....
قاطعتني بحدة :
- العذراء لنا .. العذراء لنا .
- بل هي لنا ، وفي قرآننا
- بل هي في كنيستنا .. وليست في جامعكم
رسمت بعصبية فوق الأرض كنيسة وطمستها
بالتراب ، قلت :
- هذه كنيستكم .
فاندفعت على فورها ورسمت بإبهامها فوق
الأرض مسجدا وطمسته بالتراب ، وقالت :
- وهذا جامعكم
أمسكت بها من شعرها .. فغرست كل أسنانها في
ذراعي حتى أدمته .
ولما عُدنا وشكونا لأمهاتنا ، وكانت أمها
في بيتنا وقتها وقد علقت على ما حدث بقولها :
- ابنتاك تريزة وصالحة سيحرقهما الله في
نار جهنم .
ولامتنا كثيرا أمي وهي تصرخ فينا :
- هل أعجبكما ما فعلتمانه ، أما تشعران
بالخجل ؟ الآن ستقول عني مريم بأن لبني غير
طيب أيتها الفاسدتين .
يومها لم أترك أمي إلا بعد أن أجابت على
سؤالي :
- لماذا أرضعت البنت تريزة ؟
قالت :
- إن الخالة مريم أصيبت بحمى شديدة عقب
ولادة تريزة ، وقمت بإرضاع تريزة .
***
آه يا مسعود .. ان دمائي تحن إليها كلما جاء
ذكرها ، يبدو أن آلام الفراق قد قدرت عليّ ،
وفرضت ظلها الثقيل الكثيب على حياتي كلها ،
وتركت في القلب مرارة لا تؤذن بالرحيل .
***
بعد انتهاء الحرب عاد شقيقي هلال وقد فقد
ساقه اليمنى ، وفي يوم عودته خرجت القرية في
استقباله ، وقد أصر أبي على أن يستقبله بالطبل
البلدي من المحطة إلى " رهبة " العائلة ،
تلك الساحة المخصصة للأفراح وغيرها .
وجاء هلال في عربة " حنطور " مزينة
بالورود .. وحوله الفتية على أحصنة يرقصون
ويهزجون :
دعيت لك وانت غايب
يا غالي
يا حبيب
يا رب انصر بلادي
يا عزيز يا
مستجيب
تطلع شمس تلالي
و شمس اليهود تغيب
وعندما انفض الناس من الرهبة ، وعاد هلال
إلى البيت استقبلته نساء الدار بالأحضان .
وضج بيتنا بالنساء اللواتي يتوافدن
لتهنئة أمي بعودة البطل .. كنت جالسة بمفردي
فوق آخر سلمة ، وعندما سمعت ترحيب النساء بأمك
يا مسعود .. وقد ارتفعت دعواتهن للسماء وهن
يدعون الله أن يعيدك سالماً .. ليذهبن ويباركن
أمك بتلك العودة .
وتسلل صوتها مثل قطرات عطر سكبت في رأسي ،
وسرت في كل حواسي وخاطري ، هبطت بسرعة درجات
السلم .. بحثت عن وجهها بين وجوه النساء حتى
عثرت عليها ، تعلقت عيناها بي ، تبادلنا
النظرات ، نهضت وقد نحل قوامها فبدت أكثر
طولاً من ذي قبل ، وهي من تلك النوعية من
النساء اللائي ينضج جمالهن ويكتمل بعد
الأربعين من العمر ، وقد أنضج الحزن جمالها ،
مثل معدن نفيس وضع في النار فأزداد تألقاً وقد
سقط عنه كل ما هو زائف ورخيص .
عيناها جعلهما الحزن أكثر بريقا ، وذقنها
الصغير المستدير يزينه وشم أخضر يأخذ شكلاً
غامضاً ساحراً ، تحتاج لوقت كبير كي يبين لك
عن سره ، عكس الوشم الذي يزين جبهتها والذي
يأخذ شكلاً واضحاً كل الوضوح وهو على شكل هلال
يحتضن دائرة قمرية صغيرة ، وقد طوق جبينها
المستدير الطويل النحيل الذي يضفي عليها هيبة
ملكة الفراعين ، بل هي في حزنها الجليل هذا
وفي جمالها الذي وضح ونضج مثل آلهة الخير ،
مثل “ إيزيس “ التي طالما حدثنا العم مجاهد
عنها .. هذا الجيد الملكي يطوقه عقد من الخرز
الأسود مثل حبات الزيتون .. وشفتاها
العُنَّابِتَّتان بلون عنب الديب .
ألقيت بنفسي فوق صدرها ، وتشممت رائحتك
فيها ، أخذت أبكي ، وأُقبل كل ما تلمسه شفتاي
منها ، صببت كل اشتياقي لك، وكل مرارة أيامي
بعدك ، ظللت أحدق في عينيها .. أبحث عنك ، عن
أحلامي الضائعة ، عن طفولتي .. عندما كنا نذهب
معاً لكُتاب الشيخ " عبد الواحد الدميري
" وكنت أتأبط اللوح الاتوازي، وأذهب إلى
بيتك م الصغير ذي الطابق الواحد المبني
بالطوب اللبن ، وسقفه من بوص الغاب مضفور
بحكمة وعناية، وأمك عند الباب تقبلك وهي تعدل
لك ياقة جلبابك " النهضة " ، وتدس في جيبك
حفنة البلح ، وتناولك اللوح ، وتنظر إليك
بفرح، ونمضي معا.. وعيناها تتابعنا بحنان حتى
ننزوي ، وفي طريقنا للشيخ تأخذ في استرجاع ما
حفَّظه الشيخ لنا بالأمس ، وننظر في اللوح
ونلضم الحرف بالحرف .. فتتشكل الكلمات تحمل
معاني كثيرة ، جميلة
وطازجة .
كنت تمد يدك للشيخ لتحمل عقابي بدلاً مني
، وحين يرفض تبكي ، وحين أبكي تحيطني بنظراتك
الدافئة الحنون .. ونسمع الغمز واللمز من
الأولاد .
وعند عودتنا تحاول أن تضحكني .. وتقلد لي
صوت اليمامة .. تعرف جيداً كم أعشق صوتها ،
وتصر أن تأخذني لبيتكم لأن أمك تريدني ، ولما
نصل إلى البيت نجد أمك قد شوت لنا في الكانون
كوزين ذرة شامي .. تناولهما لنا ، وترقبك وتسعد
برجولتك ، وتهمس في أذني :
- تتزوجين مسعود يا صالحة ؟
تبتسم أنت ، بينما أخبئ أنا وجهي بين كفي ،
وقد انتفض قلبي مثل فرخ عصفور صغير سقطت عليه
قطرة ماء ، وكأنك اتفقت معها أن تسمعني هي بما
تخجل أنت من البوح به .
وتحل نعجتك يا صغيري من قيدها ونمضي معاً
، وقد تفتق قلبي الصغير عن شجرة حب عملاقة
تطرح ألف مليون قلب يغني لك :
- أحبك يا مسعود ، يا عصفور قلبي ، يا قمري
الصغير ، وعطر الريحان .. با أمنيتي الدافئة ،
وحلمي الصغير .
وعند القنطرة الصغيرة تنتظرني حتى أعود
إلى بيتنا وأجئ بأغنامي ونسلك الطريق الزراعي
وتنطلق أغنامنا في الأماكن الفسيحة تأكل بفرح
ما تجود به الأرض من عشب وما تلقيه لها أشجار
السنط من " القرض " الذي يطيب لهم ،
وتأخذني تحت جناحك وتهمس في أذني :
- أنتِ تعشقين صوت اليمام ، سأصطاد لك
واحدة حالاً بهذا الفخ .
فأصرخ :
- لا يا مسعود حرام .. ستهشم ساقيها
الصغيرتين ، بهذا الفخ القاسي .. وستدفعني
للبكاء .. مسعود أنا أكره هؤلاء الأولاد
الأشقياء الذين ينصبون أفخاخهم الملعونة ،
يطعمونها بحبات القمح ، فتنخدع العصافير
الطيبة .
وتبتسم يا صغيري وتقسم بالكعبة الشريفة
أنك لن تصطاد بعد اليوم ، وسوف تحطم بيدك هذا
الفخ .
وتغيب عن عيني دقائق .. تندس بين أشجار
القطن ، ثم تعود ملء كفيك " عنب الديب “ حيث
أشجاره الكثيرة تندس بين أشجار القطن ، وتنظر
إليّ وأنا أضع حبات العنب الصغيرة في فمي لترى
كيف سيكون رد فعلي ، وتسعد عندما يعجبني طعمها
المسكر اللاذع بعض الشيء ثم اكتشفت أن العصا التي تهش بها
أغنامك ما هي إلا ناي ، وتقول بأنك سللته من
حزمة النايات التي سيبيعها والدك في سوق
الأربعاء .. ثم تضعه في فمك وتأخذ في العزف غير
المنتظم ، لم تكن قد اتقنت العزف بعد ..
وتقول لي عقب كل مقطوعة :
- هل عرفت ماذا قلت لكِ من خلال الناي ؟
وأجيبك بالنفي .. فتكرر المحاولة .
ولما تأخذ الشمس في التقهقر نعود من نفس
الطريق الذي سلكناه .
***
آه يا مسعود لا أدري كم من الدموع بكيتها
على كتفيها ، لا أدري كم من الوقت بقيت على صدر
أمك ، ويدها الحنونة تحيط بي ، وتجفف دموعي .
قرصتني أمي خلسة أثناء مرورها بجواري لكي
أفيق بعد أن لاحظت عيون النسوة تلتصق بي وتأبى
أن تنخلع عني .
عماتي الثلاث ينظرن إليّ بغضب ، ويغتنمن
كل فرصة تسنح لهن للتعبير عن هذا الغضب .
ورغم الخوف الذي أخذ يشق طريقه إلى قلبي
إلا أنني ظللت بجوار أمك فهي جزء منك ، وحاولت
إبقاءها أكبر قدر ممكن وبقيت طيلة الوقت
ملتصقة بها ، ولما مضت وغادرت البيت ، رجوتها
ألا تطيل غيبتها عني وأنا أبكي بحرقة .
وما أن غادرت الدار .. حتى انفردت بي أمي
وعماتي .. وهن ينهلن عليَّ ضرباً .
رائعة أمك يا مسعود ، أمور كثيرة عالجتها
بحكمة وذكاء .
لقد أرادوا أعمامك أن يفجروا نافورة من
الدماء تضخ ولا تتوقف أبداً ، وذلك عقب رحيلك
مباشرة ، ولكنها وقفت شامخة كالجبل تصد عواصف
الشر ، لقد اكتفت بعقاب السجن للقاتل ، وذهبت
سراً إلى المرازيق ليأتي أحدهم حاملاً كفنه
حقناً للدماء وحفاظاً على كرامة عائلة والدك
، وكان لها ما أرادت ، وكان ذلك في مولد الشيخ
“ حامد “ والذي تزامن مع دخول التيار
الكهربائي للبلدة .
شامخة أمك كالنخيل وأكثر صلابة من الجبال
، لم أر لها مثيلاً قط من نساء القرية ، فقد
جعلت من احزانها عرشاً مهيباً ، وجلست عليه .
لم تسمح يوما ليد الرثاء أن تمتد لتدس السم في
جرحها ، وظلت منتصبة ، فهي تعلم جيداً أن
السقوط يكشف الجراح ، وأن تعرية الجراح تغري
الطيور الجارحة بالهجوم عليها لتنهش لحمها ،
وتحدث عدة ثقوب في رأسها لتقضي على البقية
الباقية منها .
أمك ما زالت تؤمن بأن جراحها أغلى من أن
تعرض في سوق الشفقة ومصمصة الشفاه الزائفة ،
أغلى من أن تباع في هذا السوق الرخيص وبذلك
الثمن البخس ، وأن حزنها الذي أكسبه لها فراقك
ومقتل والدك لهو أكبر كلام الرثاء الذي يتشدق
به المخلصون والمنافقون ، لهذا فقد آثرت أن
تلملم أحزانها داخل قلبها وتغلق عليها حتى
وان استحالت تلك الأحزان إلى طيور جارحة تنخر
بمناقيرها جراحات ذلك القلب .
حتى وان صارت حيوانات صغيرة شرسة تقرض
جدران قلبها وتأكل ببرود ما يتساقط منه ،
أيضاً في كفها لا كف غيرها تسقط دموعها ، حتى
وان انبتت الدموع شجرة حنظل مُرة الثمار ،
فسوف تحتمل تلك المرارة بصبر ، لقد قررت أن
تركب جبل أحزانها .. بدلاً من أن تسقط فيسير
هذا الجبل ببطء على صدرها .
لو رأيتها وهي تحرث الأرض ، وترويها
بالناطور من الترعة التي تمر من أمام حقلكم ،
وتزرع الذرة ، بهمة ونشاط ورشاقة مثل فرعوني
قديم ، ويتصبب العرق منها فيبتل ظهرها وتحت
إبطيها ويتدحرج من فوق جبهتها ليلذع عينيها ،
فتجففه بطرف طرحتها دون أن تُظهر كلل ، ولا
يعرف أحد إلى أي مدى بلغ شعورها بالإرهاق
والتعب ، وعند عودتها من الحقل تذهب إلى ترعة
شرق البلد حيث نبات الغاب وفي ذات المكان الذي
كان يجلس فيه والدك أسفل شجرة التوت العتيقة ..
تجلس بضع دقائق .. تشم رائحته ، تتحسس موضع
خطواته .. ثم تنهض ، تستخدم بنعومة منشاره ..
تأتيها من بعيد .. بعيد .. أصداء نغمات نايه ،
طيور السماء تنشد على أثرها أنشودة رثاء ،
تحمل أمك حزمة من بوص الغاب وتعود لبيتها ..تضيئه
، وتغلق عليها بابها ، ثم تمضي جزء من الليل في
صنع النايات الصغيرة التي لا تزيد على
العُقْلتين ، فإذا جاء الصباح يزدحم الصغار
على بابها فتوزع عليهم تلك النيايات مجاناً
مع ثمار البلح لقاء أن يدعوا لك .. وتتوسطهم
كما في الحكايات القديمة حيث يهبط الملاك
الأبيض عند البحيرة في صورة فتاة جميلة ،
تتوسط الأطفال اليتامى والفقراء تجفف دموعهم
، وتمسح بيدها الخيرة عبوسهم وتوزع عليهم
الحلوى ولعب الأطفال .. كذلك تفعل أمك توزع
عليهم البلح والنايات ، فيدعون لك بالعودة ،
حيث تتوحد اصواتهم الصغيرة وترتفع تدريجياً
هتافاتهم وهم يصفقون بأكفهم البائسة وهم
يرددون :
يا ربنا يا ربنا
رجع مسعود تاني لنا
وهكذا يرددون وهم يخرجون من الدار .. حتى
يتبعثروا في طرقات القرية .
يتقطر الدعاء من أفواههم رحيقا
رطباً ينزل على صدرها المحترق فيبلله ويلطف
ما به ، ويبعث في قلبها الملتاع بعض الأمل في
العودة .
وهي لا تترك مناسبة إلا وتأخذهم عندها
وتُطْعِمُهم .. ففي الجمعة الحزينة توزع عليهم
الفول النابت ، وفي المولد النبوي توزع عليهم
الحلوى الحمراء ، وفي مولد الشيخ حامد توزع
عليهم الكشك باللبن ، وفي عاشوراء توزع عليهم
أطباق عاشوراء ، وفي عيد الغطاس توزع عليهم
القصب ، فيرفعون أكفهم للسماء ، ويدعون لك
بالعودة .
مسعود يا جنون جنوني .. كيف لم يرجعك دعاء
الصغار .. كيف ؟.
***
ثلاثة أيام وينفذ فينا قرار
الإعدام .. مهران يكاد يجن ، يزرع البيت ذهابا
وإياباً ، يضرب كفاً بكف ، يهز رأسه بأسى ، إذ
كيف وهو الفنان الراهب في معبد الجمال والذي
لا يمانع من السير وراء إحدى الجميلات فوق
الزجاج والأشواك حافي القدمين ، إلى آخر بلاد
جهنم الحمراء ، كيف يحكمون عليه بالزواج من
" فطوم " ابنة عمه ، التي لا ينقصها على حد
قوله ، غير ذيل وقرنين ، وهو يقسم لأمي على
أنها ذكر يرتدي فستان، ثم يكور يده ويضرب
الجدار ، ويركل بعصبية كل ما يراه .. الصوامع ..
الكانون .. المصطبة .. الزير .. مخاول البهائم ..
يجلس بجوار أمي
يستحلفها بكافة الإيمان أن تطلب من أبي تأجيل
هذا الحكم للعام القادم حتى يكون قد أنهى
دراسته في مدرسة المعلمين ـ ثم ينفعل صوته
ويمتلئ بالرجاء وهو يقول:
- قد يميت الله تلك العروس في العام القادم
، وأنفذ بجلدي من قبضة تلك المصيبة .
لكن أمي تنهض من جواره،وتنفض ثيابها
وتمضي وهي تقول:
- والدكم أمامكم حدثوه أنتم بما تريدون ،
ولينتقم الله من الذي يحاول أن يدخلني في
موضوع الزواج هذا ، وبالذات لأنه قد وزعكم على
أخوته .
قلت بحدة :
- ستقتلعونا من جذورنا .. وتلقون بنا ....
قاطعتني أمي وهي تنظر إليَّ بغيظ :
- لابد من اقتلاعكم ، ولكن لن نلقي بكم في
عين الشمس ، بل سنزرعكم في أرض بكر لتواصلوا
حياتكم ، بشكل جديد .
- ستزرعونا في تربة غير تربتنا ، ومناخ لا
يلائمنا ، وسوف تجف اوراقنا ، وتتعفن جذورنا ،
وتذبل حتى الموت .
-
أمامك جدران البيت كلها .. أضربي فيها رأسك حتى
تتحطم وسنرى من سيمنع كلبة من الموت .
مسعود .. كانت جدتي تقول لأمي حين تقسو
الأخيرة عليَّ بالضرب :
- ليس اليتيم من فقد والديه ، بل هناك
يتامى يحرمون من عطف والديهم وهم على قيد
الحياة ، على أن من فقد والديه هو أفضل حالاً
من هؤلاء الذين لم يفقدوا والديهم ، لأن الأول
يجد من يعوضه لأن الناس تتعاطف معه ، أما
الثاني فهو يُعَذِّب بقسوة والديه ولا يجد من
يعطف عليه .
وكانت أمي تقول معقبة :
- ادعي الله يا عمة أن يريحهم ويرحمهم
بموتنا لكي يحظوا باليتم الأفضل ، وينالوا
عطف الغرباء ؟! .
ينقبض قلبي يا مسعود عندما تقول أمي هذا
الكلام ، فأجري إليها ، أخاف أن أحرم منها ،
ألتصق بها رغم دفعها بي بعيداً أحياناً ،
وأدرك على الفور كم أحبها وأقول لجدتي :
- أنا أحبها يا جدة أكثر من أي شيء . هي التي
ولدتني وأرضعتني .
لكن جدتي لا يعجبها قولي فتجري
خلفي وهي تقول :
- والله أنت بنت كلب منافقة ، البهائم يا
بنت المركوب القديم تلد وترضع صغارها ،
ولكنهم جميعاً ينكرون صغارهم بعد الفطام ، لا
عطف بعد ذلك ولا شفقة ولا رحمة .
أفتقدك يا جدة ، افتقدتها يا مسعود بشدة ،
اشتاق لضحكتها الطيبة ، وصوتها الحنون ،
ولمسة يديها على شعري ، أشتاق إلى أبطال
حكاياتها .
أهو قدري ؟! أهو قدري يا صغيري أن تفر من
حولي كل القلوب المحبة لي ، المحيطة بي ،
والتي استظل بعطفها ، وأتدثر بحنانها ، لماذا
تتركونني وحدي في صحراء أيامي الجافة ، حيث
الصبار طعامي ، والحنظل يعتصرونه ليكون شرابي
، والأشواك فراشي ، والخوف جلادي المستبد .