أحداث
طلاقي منه لا أكاد أذكرها .. كل ما أذكره هو أن
قارورة الحنظل التي كان يجرعني منها كل ليلة
قد تحطمت ، وانغرس زجاجها في كفه هو ، إذ كان
كلما اغتصبني وقد استعذب مذلتي وآلامي يقول
في أذني :
- سأزرع ها هنا أطفالي .. يمتصون دمك من
أحشائك ، ويمتصون نهديك ، سيحملون صفاتي
ودمائي التي تكرهينها ، ستُكرهين على محبتهم
وهم مني ، وسوف أربيهم على كراهيتك ، ستكونين
خادمتهم وجاريتي ، وحين يشتد عودهم سأجعلهم
يضربونك بالنعال .
ولكنه فشل يا مسعود في ذلك وأبت عليه
أحشائي ولفظت كل بذوره الفاسدة .
لم أشعر بفرحة الخلاص .. المرار المضطرم
بأعماقي طفح على رأسي قتل كل خلايا البهجة في
عقلي ، أطفأ تألق الأحلام في عيني .
خرجت من هذا القبر المتعفن ومضيت على جمر
.. على رماد جثتي ، سأجدهم غرباء وأقرباء
ينتظرون على جانبي الطريق .. يصطفون ،
يرشقونني بنظراتهم وبتعليقاتهم ، لن يفهموا ،
لن يقدورا ما أنا به ، سيتنزعون بوقاحة غلافي
، ويمتصونني من الداخل ، مثلما يتعاملون مع
عود القصب ، سيعاملون معي ، وسيرسلون أعينهم
الحادة تنخر في جراحاتي المتعددة لتبحث
أسبابها وتشخصها حسب الأهواء .. وما توحي به
ظنونهم .
وفي بيت أبي الأسمنتي الجديد ينتظرني ما
هو أمَر وأقسى .. تنتظرني زوجة هلال وزوجة
مهران ابنتا عمي اللتان لن تتوانيا على قذفي
بكل ماهو موجع وقاسي من الكلام لتثأرا
لشقيقهما مني .. ولن ينقذني أخواي لسفرهما
خارج الوطن .
هلال يعمل بواباً في السعودية ،
ويأتي كل عام شهراً أو عشرون يوماً ويعود
لغربته من جديد .
ومهران سافر بعقد إلى “ الجزائر " ،
وعمل هناك مدرساً للغة العربية غير أنه تعرض
هناك لمضايقات كثيرة .. بلغت المعايرة
بالخيانة لأنه مصري .. ومصر ـ في اعتقادهم ـ
باعت الأمة العربية بعد أن عقدت صلحاً
وسلاماً مع أسرائيل ، ولم يتحمل مهران
الإهانات المتكررة وآثر العودة ، عندما عاد
من هناك ظل مكتئباً حزيناً لفترة ، ولكن بعد
فترة أُعير لليمن وهو باق فيها حتى الآن .
***
البيت الأسمنتي مغلق المسام .. لا يسمح
لعطر الذكريات أن تتسرب إليَّ لتأخذني بدورها
بعيداً عن هذا الجفاء ، والجفاف العاطفي الذي
أحياه .
كل شيء فيه حياة أبعدوه من هذه الدار ..
البط ، الدجاج ، الإوز ، الحمام ، كله في البيت
القديم مع الأشياء الأخرى التي بطل استخدامها
كالنورج والمدراة وطلمبة المياة .. أمي تذهب
كل ثلاثة أيام لتضع طعام الطيور ، وتملأ
الزيار لكي تشرب الملائكة وتضع في الأركان
لقيمات خبز مع صرة ملح لكي لا تسكنه العفاريت .
في البيت الجديد ، لا ديكة تصيح ، ولا حمام
يهدل ، ولا شيء سوى دوي الغسالة الكهربائية ،
وضجيج التلفاز ، وصراخ شرائط الكاسيت التي
تحمل أصوات لا تغني لنا يا مسعود ، هؤلاء
المُغَنُّون لم يستطيعوا أن يكونوا
المتحدثين باسم عواطفنا .. المعبرين عن قصص
حبنا الصغيرة .. هؤلاء المطربون غرباء عنا ،
أنهم يتنططون كالقردة ، يتصايحون كباعة الفجل
، يخترقون أذنك بوحشية ، يتفوهون بكلمات لا
نعرفها ، لا نفهمها، لم نتعلمها في كتاب الشيخ
عبد الواحد الدميري ، لم يقرأ علينا : "
إستوك .. السح دح " .
مسعود .. هذا ليس زماننا ... هذا زمان متوحش
.. جن جنونه .. فأكل رحيق المعنى والمغنى
والبهجة .
في هذا البيت الجديد أشعر أني لا أراك
ثانية يامسعود ، يتلاشى أملي تماماً في عودتك
، أحس بأنك مجرد ذكرى ، تأتيني من بعيد ، من
عالم تفصلني عنه آلاف الأعوام ، تفصله عنه عدة
أجيال وأجيال .
هذا البلاط القاسي يجثم على وجه الأرض ولا
يسيمح لها بالتنفس ، وهذه الغرف المحكمة
لاتسمح برائحة الحقل أن تتسلل إلى رئتي ، وهذا
السقف الخرساني الأصم لا يسمح للقمر أن
يزورني ولا للعصافير أن تبني فيه عشها الصغير
لتغني لي صباحاً فأستيقظ أكثر بشرا ، اكثر
تفاؤلاً ، وقد كنت أشم رائحتك تقترب تعلن عن
قرب قدومك ، اشمها في رائحة الحقل ، وأنفاس
الأرض حين يبلل الماء ترابها ، وفي أريج
الليمون حين يزهر ، كان صوتك يأتيني عبر غناء
العصافير ، ووجهك يطل عليَّ من مرآة القمر
المضيئة ، الآن كل هذا صار بمنأى عني ، وبات
طيفاً بعيد .. بعيد عني .
***
الضجيج يأكل رأسي ، الأولاد لا يكفون عن
المشاجرة ، أولاد هلال ومهران وزينب وأمينة ،
ويزداد الأمر تعقيداً عندما ينضم إليهم
أشقائي الصغار محمود وهمام وعيد ، إذ لا يكفون
عن المشاجرة والعراك لأجل اسماء مشاهير لا
استطيع حفظ اسمائهم بسهولة ، فهذا يعشق "
بروس لي " والثاني يعجب بـ " باتشان "
والثالث " فان دام " ، كل منهم راح يعدد
مزايا نجمه المفضل حتى لو اضطر لإستخدام
عضلاته .
أبي من فوق مرتبته الاسفنجية التي تعلو
الدكة الخشبية التي تتصدر مدخل البيت ، يصرخ
فيهم وينهرهم ، ويتساءل بحيرة ودهشة ,انفعال
عن تلك الاسماء وقد تعثر في نطقها الصحيح .
أبي يا مسعود يكره “ رجب “ يكره اليوم
الذي عاد فيه من الكويت بتلك النقود الني بها
هدم البيت القديم وكان طابقه الأول مخصصاً
للكتاب لتعليم القراءة والكتابة وتحفيظ
القرآن ن وأقام بدلاً منه مقهى كبير زود بجهاز
فيديو ، اعتبر أبي ان مافعله رجب بجهازه من
اسباب فشل أخوتي في التعليم ، وضياع أحلامه ..
ذلك لأن المقهى يلتهم كل وقتهم .
مازال الضجيج يأكل رأسي ، رغم انشغال بنات
هلال ومهران وزينب في الإعلانات التي تبص من
التلفزيون لتعلن عن الصابون واللبان
والشامبو وأحمر الشفاه والهامبورجر ، تلك
الاعلانات التي تسبق المسلسل العربي ، ورغم
انصراف الأولاد الصغار إلى لعبة الأتاري في
دكان " عزيز نخلة " الذي يتقاضى عشرة قروش
عن كل ثلاثة دقائق يمارس فيها الطفل لعب
الأتاري .
على الرغم من هذا الهدوء النسبي أشعر
بضجيج غير عادي ، مليون طائرة يخترق أزيزها
أذني وعشرات الطلقات النارية تثقب جمجمتي .
رجوت أمي ان تحدث أبي ليأذن لي بزيارة
البيت القديم لأقوم بإطعام الطيور بدلاً منها
، اشتاق إلى جدرانه وعتبة المصطبة ، المندرة ،
أشتاق إلى كل ركن دسست فيه دمعة صغيرة ، أمنية
حلوة ، وضحكة خالية ، اشتاق للسطح وذكرياته
الدافئة ، وعشش الدجاج ، والفرن ، وبناني
الحمام ، وصوامع الغلال .. سأكنسه بـ "
السباطة "وأرش أرضه وسطحه بالماء ، وأطعم
الطيور ، وأملأ الزيار ، وأبقى بعض الوقت .
***
عندما خطوت بقدمي خارج البيت الجديد شعرت
بأنني قد ألقاك في أحد الأماكن التي كانت
تجمعنا ، وددت أن أخلع حذائي هذا وجوربي
وطيلساني الأسود ، وأشبك ضفائري وأجري ، أجري
إليك حافية القدمين ، قد أجدك أسفل شجرة
الخروع عند سبيل العم بدوي ، تنتظرني وتعزف
اسمي بالناي ، أو قد أجدك غرب البلد عند "
الزحلوقة “ التي طالما شهدت ضحكاتنا
الطفولية ، ومرحنا البريء . أتذكرها يامسعود ؟
أتذكر الزحلوقة.. تلك الترعة الملغاة والتي
تخلو تماما من الماء وتكتسي بالنجيل الأخضر
الرطب الطري ، كنا نجلس فوق قمتها ونسترخي
تماماً ثم نأخذ في الانزلاق الناعم حتى تصطدم
أقدامنا بالسفح ، وتبدأ المهمة الصعبة في
الصعود الذي يتعثر فيه بعض الأولاد غير
المهرة فيكون مادة ثرية لضحكنا .
هذا المكان أيضا شاهد أول خصام لنا ، شاهد
دموعنا الصغيرة عندما خربش قط الغيرة قلبينا
الصغيرين .. أنت لاشك لم تنس تلك التجربة .. يوم
ذهبت بأغنامي إلى هناك لألقاك .. فتقهقر قلبي
وسقط أرضاً عندما رأيتك تلعب مع إحدى بنات
الغجر، وكانوا ينصبون خيامهم في هذا المكان ..
كانت البنت برونزية اللون ، خضراء العينين ،
رائعة الجمال ـ كنت أبكي ـ كان
ذلك سيزيد حالتي سوءا ، وجريت .. بأغنامي كدت
انكفئ على وجهي أكثر من مرة ، ولما عدت إلى
البيت ألهث ظنت أمي أن هناك ذئب طاردني ليأخذ
إحدى أغنامي ، لكن أدعيت بأنني أعاني آلاما
شديدة تنهش في أمعائي ، وفي المساء ذهبت أمي
لزيارة ابنة عمها التي عادت مؤخراً من السويس
بعد أن تعرض بيتها للهدم إثر هجوم من العدو
الإسرائيلي ، أبناؤها الثلاثة يشعرون
بالغربة في بيت جدهم، لكن أكبرهم وكان وقتها
في مثل عمرك قد ألفته بسرعة .. وقررت أن أصحبه
في الصباح إلى كل الأماكن التي أعرف أنك
متواجد فيها ، بل سوف أمر به من أمام بيتكم
كثيراً ، وسوف أثأر منك وقد فعلت وحين رأيتك
في الحقل تبكي وحيداً عند جذع إحدى النخيلات ..
ضعفت ولم أقو على مواصلة خصامك ، ويومها قلت
لي :
- أنت تحبين ابن خالتك لأنه يتحدث بلهجة
أهل البندر ، ويرتدي بنطلونا وقميصا ، ولم
تعدي تحبينني .
- بل أنت تحب بنت الغجر لأنها أجمل مني ؟ .
كانت تجربة ساخنة مهدت لكلينا أن يتوغل في
عمق الآخر، والله يخيل لي أني سأراك هناك .. أو
عند مسطاح الذرة النيلية ، وغناء الفلاحين
وهم يدقون قناديل الذرة ، ويغني أحدهم
والباقون يرددون خلفه ، تلك الأغنيات التي
تعشقها .. بإيقاعها المميز وأصواتهم تتحد
وتتحدى التعب ، وتخرج مبللة بالعرق :
حبيبي ف طرف شالك ليل الشتا طويل
ليل الشتا طويل
خايفة يطول غيابك تعشق غيري وتميل
تعشق غيري وتميل
وتفوت شعبان وزُهرة ومحمد وخليل
ومحمد وخليل
وتنسى سهر الليالي وغناوي المواويل
وغناوي المواويل
أرمي دراعك مخدة أسبل عيني وأنام
أسبل عيني وأنام
جوة عينيك غناوي وغيطان وابراج حمام
وغيطان وأبراج حمام
أو قد أجدك تنتظرني عند جنينة
" اسماعيل البدري " مثل زمان .. وأنت
تتعلق على سورها وتنادي على ولده " طه "
صديقك تأخذ منه حزمة
ريحان وإحدى زهور الرمان ، تضعها وسطهم
وتنتظر في لهفة قدومي وحين تراني على أول
الطريق تجري نحوي .. فيسري عطر الريحان في دمي
، وأشبك زهرة الرمان في شعري ، وننطلق في
الحقول خلف فراشات الجنة الملونة . أما
الفراشات البيضاء فلا نطاردها ، فقد اهتدى
خيالنا يوماً إلى أن هذه الفراشات هي في
الحقيقة ملائكة الحقول .. تتخفى في شكل فراشات
بيضاء فإذا ما طاردناها فسوف تشكونا إلى الله
، وسوف يعاقبنا ليلاً إذ يرسل في أحلامنا من
يخيفنا ويتعقبنا ، لذلك نحن نتحاشى مطاردتها
ونحملها أحيانا أمنياتنا الصغيرة لتنقلها
للسماء لتصل أسرع ويكون الأمل في تحقيقها
أكبر وأكبر .. أو لعلك تنتظرني فوق ضفاف الترعة
، عند بيتنا الأخضر الصغير الذي تظلله شجرة
النبق العتيقة ، أو عند شجرة التوت تحصد بوص
الغاب ، وتغني لي إحدى أغنيات عبد الحليم .
يسيطر عليَّ شعور أشبه باليقين بأني
سأراك في أي مكان من أماكننا القديمة .. وقد
خرجت من تحت تلال السنين الثقال واستخلصت
نايك الرقيق وجلست تعزف لحناً يعبر عن معنى
الانتظار .
مسعود تعاااالى . أشتاق غناء الناي في فمك
، أشتاق أحلام طفولتي وصبايّ الموزعة على
أهداب عينيك ، وأشتاقك .. أشتاقك .. أشتا ... قك .
***
عندما أبصرت بوابة البيت القديم المميزة
، فاض حنيني وبكيت / مسحت بوجهي عتبته ، وتحسست
كل لبنة من لبناته ، وكل كوة فيه ، وكل شبر في
أرضيته .. تحسست الأوتاد والغرابيل القديمة ،
والنورج ، والمدراة ، والمحراث ، والسّراتة ..
والكانون ، والمواجير .
وتشممت رائحة دموعي ، وندى أحلامي ، ورنين
ضحكاتي ، وصدى صوت جدتي يردد الحكايا ، وعذوبة
صوت أبي وهو يتغنى بالسيرة الهلالية بصهيل
خيولها وقرقعة سيوفها ، وكرم شيم أبطالها .
لو كانت جدتي على قيد الحياة ، وجاءت معي ،
وعاصرت اللحظة .. لقالت على الفور عدودة تناسب
كلماتها ما يمور في صدري الآن .
الكوة الصغيرة المطلة على السلم ما زالت
تحتفظ في أحشائها باللمبة العويل ، وما زال
أثر دخانها باقياً ، اضطرب قلبي بشدة لما رأيت
السطح ، بكيت فوق بناني الحمام وفوق الفرن و....
خُيل إليَّ أن هذا يومي لأكنس السطح وارشه
بالماء ، وأغسل زجاجة اللمبة نمرة خمسة ،
وأملأ القلل ، وأفترش السطح بالسجاد القديم
والحصر ، وقد هممت لأفعل ذلك .. استرجع ولو
بالخيال الحكايا وجلسات السمر ودفء الصحبة ،
وعطر الماضي الذي يأبى الرجوع .
تجمدت مكاني لما رأيت الخالة مريم تخرج من
سلم بيتها إلى السطح وعندما رأتني لم تصدق
وأنا لم أصدق عيني ، فأنا أعرف أن الخالة مريم
والعم شنودة قد تركا القرية وهاجرا إلى
المدينة ليكونا إلى بجوار أبنائهم وذلك منذ
سنوات ، لم أكن أعرف أنها عادت ، هرولت إليها
وارتميت في حضنها ، كانت آثار البكاء واضحة
على أنفها وعينيها الحمراويين المتورمتين ،
تغيرت كثيراً .. لم يترك الزمن قطعة من جسدها
وإلا وترك بصمته عليها ، عكس أمك يامسعود التي
يمعن الزمن الماكر في تحديها ، فيترك وجهها
الصبي البارع الجمال .
سألت الخالة مريم عن فيكتوريا وتريزة
وجرجس وسمير ونادي .. والعم شنودة ، بكت بحرقة
وقالت :
- شنودة متعب ، وإنها عادت به مساء أمس
بناء على رغبته الملحة .
لم انتظر حتى تكمل .. هرولت ، جريت ، وبسرعة
هبطت درجات السلم لكي أراه .
ألفيته يحتضر وبجواره القسيس ، كانت روحه
العطشى تلتهم كل ما يُتلى عليه ، ورغم آلام
الاحتضار ولحظاته العصيبة ، فقد سمع صوت
بكائي ونادى بصوته المتهدج ، رغم كربه وجفاف
حلقه فقد تناول يدي وقربها من فمه ، فأنحنيت
عليه أُقبل وجهه ، قلت له :
- ابق معنا ياعم شنودة ، لاتتركنا .
تمزق وجهه عن ابتسامة جافة ، وقال بسخريته
المعهودة :
- أنا مسافر إلى الرب ، اتريدين شيئاً من
الآخرة لأرسله لك ياصالحة ؟! .
مات العم شنودة يامسعود ، مات دون أن يراه
أبي ، وأن تراه أمي .
لم أجدك في الحقول يامسعود ، ولم أجد
فراشات الجنة الملونة ولا الفراشات
الملائكية البيضاء ، يبدو أنها كغالبية
الطيور والفراشات لم تقو على مقاومة المبيدات
السامة التي باتت تملأ سماءنا وأرضنا ، حتى
النوار فقد تألقه ، جفت حقولنا يامسعود ، وكان
يرويها الغناء ، كما كان يرويها عرق الفلاح ،
كنا نغني ونحن صفوف ، ننحني تحت قرص الشمس
نبحث بأيدي حانية عن " اللطع " ،ونغني
أثناء دوران النورج فوق أطنان القمح ، واثناء
الحصاد والحرث .. ونغني مع السواقي وماكينات
الري وهي تروي الأرض .
الالآت الحديثة بضجيجها وأصواتها الحادة
لا يجدي معها الغناء ولا يستحب ، وحقولنا يا
صغيري كقلوبنا تحتاج دوماً للغناء .
شجرة التوت التي احببناها صارت عجوزاً ..
عاقراً .. تساقطت كل أوراقها ، الأولاد
القادمون .. ليسوا طيبون مثلنا ، فهم ينهالون
عليها بعصيهم الغليظة فيسقطون أوراقها
وثمارها الحمراء والخضراء التي لم تنضج بعد ،
كانوا يجهضونها بالقوة ، أين أنت لتحميها،
وتحميني .
سبيل
العم " بدوي " صار مأوى للبوم والوطاويط ،
لكنه لم يزل في مكانه فقط يحتاج لمن يغسله ،
ويملؤه من جديد .
وشجرة النبق أيضاً كما هي في نفس مكانها
لا زالت تثمر وتجود بالخير والثمر الحلو ،
مازالت شامخة متألقة غضة كأمك، وقد احاطت
غصونها بالأشواك الحادة ، والويل لمن يمد يده
نحوها .
أما بيتنا الأخضر الصغير فلم أعثر له على
أثر ، أقتلعته الأيدي الشريرة ، وانطوى مع ما
انطوى من أعمارنا وأحلامنا الكبيرة والصغيرة
.
لم أقو على التخلص من ذلك الشعور الذي
يتلبسني ويهمس في أذني مؤكداً لي أني سأراك في
أحد أماكننا القديمة .
انطلقت إلى الترعة الشرقية ، حيث نباتات
الغاب واشجار السنط والصفصاف ، والنخيل
والسيسبان يحف بشاطئيها ، جلست فوق الشاطئ
انتظرك ، وانظر إلى الماء ، في الماء .. قد أجد
صورتك منعكسة على سطحه ، كما كان يحدث عندما
كنت أجلس في انتظارك وتكون مختبئاً خلف إحدى
الأشجار وتتسلل دون أن أراك وفجأة أجد صورتك
فوق الماء ..تضحك لي ..
وطاااال التحديق يامسعود .. ولم يشرق وجهك
، ولم يضحك لي .. لم
أجد سوى الموت يفغر فاهه ، فقد تكاثرت الطحالب
، وضمرت نباتات الغاب ، وهاجرت الطيور الماء
ولم يبق منها القليل .. القليل القابل للتكاثر
!! .
أخذت أسعى بين الحقول حيث القنوات
الصغيرة كالشرايين تشق الحقول لتوصل الماء
للغيطان البعيدة .. ها هنا كنا نشمر عن سيقاننا
، فترتفع ثيابنا إلى الركبة لكي نتوخى البلل ،
ونخوض ضد التيار ، ونسعد بعراك المياه مع
سيقاننا الصغيرة العارية .
مسعود أين أنت ، وكيف أجدك ؟ سؤال ينخر
عظامي ويلد عدة علامات استفهام تلتف حولي ،
وتمد أفواهها المدببة في رأسي ترتشف رحيق
أعصابي وعقلي .
ذهبت إلى غرب البلد ، عند خيام الغجر
والترعة الجافة من الماء التي يكسوها النجيل
“ الزحلوقة " قلت لعلي أجدك هناك وقد يصدق
هذه المرة إحساسي .
ويبدو أنني أخطأت الطريق إلى هناك يا
مسعود .. إذ لم أجد المكان ، لا الترعة ولا خيام
الغجر ولا النخيل ولا شجرة شعر البنت ، ولا
عصفور أبو الحناء ، ولا المكان الفسيح الممتد
، وجدت هناك عدة أبنية خرسانية ، ابتلعت
الخيام والنخيل والشجرة والعصافير والترعة
والنجيل والمكان الرحب الفسيح .
بنايات كثيرة بعضها سكنية ، وبعضها كتبت
عليها لافتات إلتقطت عيني ثلاثة منها : "
الصالون الذهبي للحلاقة الحديثة " ، "
طابونة أبو سلامة " ، " مصنع البلاسيتك
لصاحبه ومديره عزيز غبروش " .
وقفت أحدق في المكان وأتساءل بيني وبين
نفسي : اين أنت يامسعود .. أقصد أين أنا ؟ .
هرولت إلى حديقة عم " اسماعيل بدري "
قد أجدك عند سورها .. كما رأيتك قبل رحيلك وكنت
يومها تصفق وترقص وتطوح برأسك في الهواء ،
وتتغنى بإحدى أغنيات عبد الحليم حافظ .
تجمدت خطواتي يامسعود إذ رأيت الحديقة
محاصرة برجال الشرطة ، علمت بعدها أنهم ضبطوا
عنده أشجار خشخاش وخرج منها كالشعرة من
العجين ، كما خرج من قبل “ عزيز برسوم "
عندما ضبطوا في منزله مصنعا للخمور المضروبة .
كيف حدث هذا ؟ لا أعلم !! .
وعدت يامسعود أدراجي لا أدري كيف أسير ولا
إلى أين أذهب .. شمالا أم جنوباً ، أم غربا أم
جحيماً !!
ماذا لو كان الشيخ عبد الواحد حياً بيننا
الآن ، وكيف سيكون رد فعله ، وهو الذي يبلغ
صوته ذروة الجمال وهو يتلو علينا من سورة مريم
: " وهذي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً
جنياً فكلي وأشربي وقري عينا “ .
ثم يحمد ربه وفي الختام يوزع علينا البلح
فيصير له طعم أحلى وأِهى من ذي قبل ، ويذوب في
أفواهنا ، وتترسب حلاوته طيلة اليوم في
حلوقنا ، وتتغذى عروقنا .
نخيلنا الطيب مثلنا كان وطنا للعصافير ،
كان أماً رؤوما للجوعى أبداً لم نكن نعرف آلام
الجوع يامسعود ، ثمار البلح التي كانت تملأ
البطون شهداً ، صارت قطرات خمر ، ناراً تدلق
في البطون وجنوناً يطيح بالعقول ، حتى نباتات
الغناء التي كانت تقطر غناءً ، صارت تقطر
خمراً في أيدي هؤلاء الشياطين .
مسعود ماذا تنتظر ؟
اقتلعوا النعناع والريحان وغرسوا في
أحشاء الأرض الطاهرة النباتات الحرام ، فماذا
تنتظر ؟ اغتالوا أماكن مرحنا ومرعى أغنامنا
واقتطعوا من لحم الأرض وعافيتها قمائن الطوب
وقد توسعوا في تجارتها ، يدلقون في جوفها
براميل البترول الأسود فتشتعل كالجحيم ،
وتنفس دخانا أسوداً يلتهم بشراهة ما تزفر
الحقول من أوكسجين ، فتحتقن عروقنا ونوشك على
الاختناق ، وتصعد الأتربة المحترقة تعكر وجه
السماء .
يطلقون الدخان والرماد في عيوننا
فماااااذا ننتظر ؟.
تعبت يا مسعود لم أترك باباً إلا طرقته ،
قلت لساعي البريد:
- خذ خطابي هذا أرسله إلى مسعود ؟!
قال ببرود وجفاف :
- خطابك بلا عنوان فكيف يصل ؟
قلت جادة :
سأرسمه على المظروف ، سأرسم وجهه
وابتسامته وجلبابه النهضة المخطط بخطوط
مستقيمة خضراء وبيضاء بلون الفجر ولون الحقل
.. سأرسم حتى بقعة الدم الحمراء على يسار فتح
الصدر فوق جلبابه الفقير .
ولما فرغت من كلامي .. ضحك .. ضحك ساعي
البريد حتى سعل واحتقن وجهه وأمتلأت عيناه
بالدموع ومضى يجر دراجته ويردد بخلاعة :
- أيها الساعي خذ آهاتي ، وطلاء شفتي ،
وعطر شعري ، وخذ حتى دموعي وابتسامتي وانطلق
بهم إلى حبيبي ، ستجده هناك في جهنم ينتظرني
على أحر من الجمر .
ثم نظر خلفه حيث أقف متجمدة في مكاني ،
وغرس في عيني نظرة حادة سامة كناب الأفعى وركب
دراجته ومضى وهو يتمتم بكلمات غير مسموعة .
ماذا أفعل يا مسعود ؟
لو كانت روحي نجمة كتلك النجوم العالية
المنتشرة في ثوب السماء ، لكان بمقدوري رؤيتك
في أي مكان متواجد فيه ، لأولي وجهي شطرك
وأتبعك مثلما تولي زهرة عباد الشمس وجهها شطر
قرص الشمس أينما يكون .
وحتى عندما سافر الفتيان للعمل في
المجاري والكباري والمدن الجديدة قلت لهم :
- إذا ما رأيتم مسعود حجازي أبو علم ،
أبلغوه أني أنتظره ، وسأنتظره حتى يشيب
الرأٍس ويتغضن الوجه ويهن العظم ويرتخي الجلد
، ولن أكف عن الانتظار مادام هناك قطار يزعق ،
ومركب يشق الموج ، وفجر يؤذن معلنا عن يوم
جديد .
ولما حل “ برمودة “ في موعده ، يحمل أواني
الذهب ليلون بريشته كل سنابل القمح باللون
الأصفر ، عاد الفتيان من المدينة .. الحلم يبرق
في عيونهم فقد حل موسم الحصاد الذي سيعقبه
موسم الزواج ، كل الفتيات سعيدات إلا أنا يا
مسعود .. إلا أنا .. أتذكر حلمنا المُهْدَر
وأبكي بمرارة ، صدقني ما زال عطري حبيس
قواريره ، ومراودي حبيسة مكاحلها ، مازلت
أدخر لك عطري وكحل عيني وأمشاط شعري الملونة
ومناديل رأسي المبهجة وثيابي المزركشة
بالكلفة القصب ، وقمصاني الحريرية الناعمة .
ما زلت حتى الآن أتصور أني فتاتك ، فتاة
الرابعة عشر ، أتصدقني ان قلت لك لا أعرف كم من
العمر بلغت ، أتفهمني يا مسعود ؟ . . لا بد أن
تعرف .. تفهم .. تعلم ، ساعتئذ قد يرتد إليَّ
وعيي وما فقدت من عمري .
مسعود .. أعرف أن ما مررنا به أنا وأنت من
آلام جسام قد أفسدت علينا أحلامنا ، وأن
الهموم الثقيلة قد اقتحمت حياتنا كالآلات
الحادة وأخذت تمزق وتدمر سنوات عمرينا ،
واخضرار طموحاتنا ، مخلفة وراءها الخراب
والدمار الذي يصعب إصلاحه، ولكني أعرف أيضاً
أن في النفس نبتت لحظة أمل صغيرة .. بإمكاننا
مراعاتها حتى تكبر وتورق وتثمر .
أعرف يا مسعود أن زماننا الذي كان أرجوحة
ناعمة ترتفع كخيالنا ثم تهبط برقة وحنان فوق
أرض الواقع الخصبة الطرية ، قد تغير ورحل وحل
محله هذا الزمن الوحشي القاسي كالقطار تصرعنا
عجلاته فتلتصق بقضبانه كتلة لحم وعظام مفرومة
وهو في جريه المندفع لا توقفه صرخات آلامنا .
لكني أعرف وأريدك أن تعرف أن الحياة ستُرد
إلينا إذا ما التقينا من جديد ، وعدت إليَّ ،
وتشابكت أيدينا ، وإذا ما فشلنا في إصلاح ما
أفسدوه ، فسوف نرحل أنا وأنت إلى ارض بكر
جديدة ، سنزرع فيها الحنطة والذرة والنعناع
والريحان ونغرس نخيلاً وعنبا وأشجار عدة
ونستدعي الطيور الطيبة والفراشات الملونة
والبيضاء .. لتعيش معنا .. بيننا آمنة ، وتبني
لي البيت الصغير الذي وعتني به .. المهم أن
تعود ..
فإذا ماعدت فبإمكان كل شيء جميل أن يعود ..
صدقني يا مسعود
وفي الختام ..
لقلبك مني السلام ، ولي الصبر الجميل
والإحتمال حتى تعود .....
ص. م .إ