الفصل الأول

المبتدأ

 

 

(( اجعلني كخاتم على قلبك كخاتم على ساعدك .

لأن المحبة قوية كالموت .

الغيرة قاسية كالهاوية .

لهيبها لهيب نار لظى الرب .

مياه كثيرة لاتستطيع أن تطفي المحبة والسيول لاتغمرها .

إن أعطى الإنسان كل ثروة بيته بدل المحبة تحتقر احتقاراً))

نشيد الأنشاد

 

 

(1)

     عندما تصادمت عيناه مع عينيها للمرة الأولى ، بُهت الذي نظر ، وأصابه الوجع ، فقد دخلته الأنثى بعينيها .. لايدري كم مر من الوقت وهو يبحلق مدهوشاُ في هاتين العينين .. إنشطر إلى نصفين عندما وجد كل من حوله يبحلق مثله وينظر إلى هذا الجمال القافز من هذين العينين السوداوين المليحتين الجريئتين الحالمتين الغجريتين المشعتين بالرغبة .

       نصف لم يستطع مقاومة النظرة ، والنصف الثاني توارى غرقاً في إحمرار الخجل .                    

      كل من حولها يبحلق في  جمالهما .

       شباك الحجرة أطل بعينين فاجرتين إخترقتا جمالهما الفتان .

      باب الحجرة نظر بعينين تنطلق منهما الرغبة وقال  :

       -هيت لك .

      حيطان الحجرة همست برقة دهانها اللامع وهي تأكلهما :

      - ما أجملهما .

       سقف الحجرة فضح نفسه وهو يفترش بعينيه عينيها .

       اللمبة التي تتوسط الحجرة تداعب بضوء عينيها أهداب العينين المشرعتين .

      المكتب الجالسة قبالته يبصبص عن قرب .

       أما الكرسي فيشعر بالأختناق وهو مقيد تحتها يريد أن ينطلق ، يقفز  ليشاهدهما .       

     حتى الأرض ببلاطها اللامع العاري من الفرش ، أخرجت عيونها من جفونها وراحت تتأمل الجمال القابع فوقها .

      شعر بالغيظ يأكله ،وهو يهمس لذاته :

     - لماذا يبحلقون فيها هكذا ؟! ، لماذا كل هذه العيون تحاصرها ، وتنظر -كل حسب وجعه -، من ينظر بشبق ، ومن ينظر بدهشة ، ومن ينظر بإعجاب ، ومن ينظر بحب ،  ومن ينظر بوله ، ومن ينظر بعشق ، ومن ينظر ويسبح الله الخالق لهذا الجمال .

      لكن الكل يبحلق ، الكل نزع برقع الحياء ، ينظر ، يبحلق في عالمهما في أغوارهما ، في سوداهما الفاحم ، وإتساعهما الذي يسع الأرض ومن عليها ، وكأن النظرة تخص الجميع ، وكأن العينين الواسعتين الحالمتين ، الغجريتين ينظران للجميع ، يبثان الوجع للجميع ، يطلقان سهام الهوى للجميع ، يدغدغان ببريقهما الجميع . أجال بصره في العيون وجدها سهاماً موجهة لاتعير له إهتماما ، الكل منشغل بالعينين ، لايرى أحد الآخر ، الكل مشغول بما يرى ، حتى المتقابلان لايرى كلاهما الآخر .

      فالسقف الناظر إلى الأرض لايشاهد خليلته ، كما كانا من قبل يلتقيان ، يتسامران ، يصافح بعضهما الآخر ، تشكو الأرض وجعها من أفعال من فوقها من عباد الله من بشر وكائنات   ، ويشكو السقف من نار الكهرباء في الشتاء ومايحمله على ظهره من أثاث  معظمه ديكور لاقيمة له .

      أما الباب المقابل للشباك والناظر إليه فما عاد يهمه تيار الهواء القادم له من الشباك ولا عاد يزعجه تراب الشارع ، كل في بلواه ، كل في همه ، كله متجه ببصره وبصيرته إلى العينين ذاتا الأهداب المشرعة يغوص في ليلهما البهيم .

      شعر بالراحة ، وبنشوة تدغدع جسده ، وبأنه عنتر زمانه ، عندما توغل في نظرتها الواعدة ووجد عينيها مشرعتين تجاهه ، تجاهه فقط ، تبتسمان له وحده ، تمنحانه الحنان وحده ، تخترقانه وحده ، تبثانه شعاعهما وحده ، فقط دون غيره ، فأغمض عينيه في نشوة ، وكأنه غير مصدق مايدور حوله ، جال ببصره مرة أخرى ، وركز على شعاعهما فوجده مندفعا تجاهه فقط ، صرخ لذاته ، في أعماقه :

    - إنها تنظر لك ، لك وحدك  !!.

(2)

     الشباك المشاغب يداعبها ، فيترك الهواء يخترق وقار اللحظة ، ويصفع شعرها النازل على وجنتيها وجبهتها ، فيترنح من فعل الصفعة الُمسكرة وكأنه يرقص على نغمات مزمار فيداعب الجفون والأهداب ، وكأن يديه تخلعه ..  وتقفز لتزيح الشعر وتعيده مكانه ، تسرع قبل أن تفعلها أناملها المشاكسة .

      وكأن الباب الساكت تملكته الغيرة من الشباك المشاغب الذي سمح للهواء بالمرور وأعطاه من شوقه لينثره عليها ، فلملم الباب بقايا الهواء المتناثر وبث فيه ذرات شوقه وأطلقها تجاه شعرها النازل فداعب الهواء الشعر ونثر غبار الشوق ، فتنفس الباب الصعداء وامتلكته النشوة فأطلق صريراً سمعه الشباك فأحس بالحالة التي وصل لها الباب العزول فكتم غيظة وصفعه بقذيفة هواء جعلته يُكبل في المزلاج ، ونظر إليها نظرة المنتظر الظافر ، وأخرج لسانه للمُكبل وصرخ :

     - إياك أن تفعلها ثانية .

       وفي لحظة نشوته فوجئ بالهواء الرسول يرتد إليه مندفعاً ليصفعه على وجهه بقوة ويرده إلى سجنه ، فنظر إليه في دهشه وقبل أن يتفوه صرخ فيه :

     - ويلك أيها الشباك اللعين تريدني رسولاً لك ، أبث لك الغرام والشوق لهذا الشعر الجميل ، والوجه الملائكي ، وكأني بلا قلب ولا روح يدركان  قيمة هذا الجمال ، لماذا أكون لك رسولًا وأحمل ذرات شوقك لها ، لماذا  لاتكون لي وحدي أبثها شوقي ، أداعبها وحدي ، قادر وحدي على إمتاعها ، ومداعبتها ، وبعث النشوة في كل مساماتها .

     تعجب الشايف من مكر الهواء وأسره للشباك والباب معا ، وشعر بغصة تتوغل كيانه العاشق ، وهو يرى السعادة ترسم على شفتيها من فعل الهواء ومحاصرته لها ، هم أن يفعل كما الهواء ولكن سهام عينيها المتوهجتين اللتين باحتا له بشئ أحسه فاطمأن قلبه واسترخى قبالتها في نشوة من فعل النظرة .

     وغاب عن الوجود الذي نظر .

 

(3)

     عندما يجلس قبالتها يتأملها ، ينغرس في وجهها يجد لها أكثر من وجه ، تختلف الوجوه بإختلاف الزاويا ، لم ير  هذا من قبل  .

       قال البعض إن ( الموناليزا )كذلك ، النظر إليها يختلف حسب الجهة .

     بروفيل وجهها - هي -  لا  اللوحة يشده من كل الجهات ، يسقطه في بحر اللذة من كل زواياه ، لشفتيها نداء صاخب من أي جنب من الجوانب ، أما إذا واجهته بهما وكأنه أنغرس فيهما ، لم يعبأ بكل ما حوله ، لا أرض ، لا شباك ، لاباب .. ، لايهمه  أحد فعالمه كله إنحسر وتقوقع وسقط صريعاً على هاتين الشفتين الطالبتين.

      أمسكت بالشندوتش بين يديها وما إن قربته من شفتيها حتى أنهال عليهما تقبيلاً ، يخطف القبلات وهي تلوكه في لذه فيخرج رائحة غريبة ملأت أرجاء الغرفة ، جعلت الجالسة بجوارها تسأل :

     - من إين اشتريت هذه الشندوتشات ؟.

     - من بائع الفول والفلافل  الموجود على الناصية.

     - غريبة ‍‍ ‍‍؟  أشتري منه كل يوم ، ولكن لم أشم تلك الرائحة أبداً .

     إبتسم السندوتش وهو يمارس فعله على شفتيها .. وتتبعثر الرائحة في الهواء لتخترق المكان وتصل إلى كل الغرف المجاورة ،  وتساءل الجميع من أين جاءت هذه الرائحة الغريبة والجميلة ، وعندما عرفوا هرولوا جميعهم إلى الرجل بائع الفول والفلافل ليشتروا منه سندوتشات ، وعندما تذوقوها لم يشعروا بطعم جديد ، ولكن الرائحة ظلت عالقة بالمكان ، يشومونها بنشوة ، وهي تنظر لهم بإستغراب .

      أما الشايف العارف المسروق من ذاته فهو ينظر إلى مايدور في صمت ، تأكل أسنانه شفتيه ، ولم تطلق الأسنان سراح الشفتين المعذبتين إلا بعد أن أطلقت إليه سهام عينيها ، فشعر بالذي شعر وتملكته لحظة النشوة ، واسترخى في حلمه الجميل .

(4)

     وكأنها شعرت بالوجع من جلستها على الكرسي طوال الوقت مكتفية بحركة نصفها العلوي  مغيرة جلستها بين الفينة والفينة ، فمرة تتكأ على المكتب بكوعيها واضعة كفتي يديها على خديها التفاحتين ، ومرة تضع ساقاً على ساق فينفر اللحم  ليطل على عيني المتابع ، ومع كل حركة من حركاتها وسكناتها تطرح في المكان بذور التأجج وتعبثر في قلبه المتابع الشايف ناراً لايدركها إلا من ذاق وعرف .

    وعندما شعرت بوجع من وهج حر أغسطس الرامي بلهيبه على كل شئ ، حررت قدميها من حذائها الحابس ، وأنامتهما على السجادة المتهالكة من الأقدام ، وكأنها اللعينة النائمة خلفها شعرت بحرارة القدمين ، أو تلذذت بجمالهما  ، وبياضهما الذي عكس ضوءهما على الشايف ، فتجرأت بلا خجل تلك المتهالكة ولثمت  ، وكأن الأصابع شعرت بفعل المشتاقة فتراقصت من أثر الدغدغة ، والشايف المتابع جرى الدم في عروقه وهم بشدها بعيداً تلك المتهالكة وما إن بدأ يفعل حتى شعر بالأرض تخرج شفتيها الطالبتين بعد أن أفرج عنها وهو يزيح السجادة المراوغة بعيداً وأنهالت الأرض الظمأى تروى عطشها وتبرد نار الوجع .

     تراجع مندهشاً من ذلك الحصار المفروض حولها من الجميع ، تمنى أن يمسكهما ويدثرهما من عيون الجميع ، أو تدخلهما في الحذاء القابع في صمت ، فهما بداخله لهما فتنة أيضاً .

       وكأنها أحست بما يدور في خلده فلملمت ساقيها وحبست قدميها داخل الحذاء وهي تلقي إليه بنظرتها ، فغاب عن الدنيا ونسى ماحدث .

 

(5)

      (( صباح الخير )) .

      قالت المفتونة  التي تسكنه ، فجال بصره في الغرفة فلم يجد سواه ، فأطل إلى وجهها الغارق في إبتسامتها المعهودة ، فسُجل هذا اليوم في ذاكرته ، فتلك هي الكلمة الأولى التي ألقتها عليه وناوشته بها ، وقبل أن يرد سمع صوت فريق (كورال ) يرد :

     - صباح الخير .

     نظر حوله فوجد الباب والشباك والأرض والسقف والمكتب والكرسي والسجادة واللمبة والمروحة .. الخ  ، يطلون بإبتسامة كلها شوق ولهفة ، فعرف أن الصوت الذي رد قبله في وقت واحد هو  أصواتهم ، فنظر إليهم في ضيق ، وتأملها فوجدها لاتنظر إلى أحد غيره ، فهمس :

     - صباح الخير .

      وكأنه  احتوى كل الدنيا وهو ينظر إليهم في إنتصار ، إنها تحادثه هو ، لاتعيرهم  إهتماماً ، إنها تخصه بكلامها ، كما خصته بالنظرة ، صوتها له رنين خاص لم يسمعه بشر من قبل ، له حضور قوي ، توغل في كل كيانه ، اخترق كل مسامات جسده ، تموسق داخل روحه ، غاب عن الدنيا وعن الوجود حتى أنه لم يشاهدها وهي ترحل ، ولكنه أحس من عيون الذين يلاحقونها .

     وكأنها الأنثى الوحيدة في هذا الكون ، أول صوت نسائي يدخله ويسمعه .

     شده هذا الحوار بين هذه الكائنات التي تلذذت بمتعة سماع صوتها ، فيؤكد الشباك أنها تقول له لأنه يمدها بالهواء ، ويرفض الباب منطق الشباك القزم ويؤكد أنه يستر عليها كثيراً عندما تعدل هندامها أو تضع بعض المكياج ، أو تحاول الإسترخاء على المكتب قليلاً ، وتؤكد الأرض أنها تحملها بحنان ، و......

     ينظر في إستغراب ويستعيد نظرتها الحبُلى الموجهة له وحده ، وتحية الصباح الرائعة التي أسرته بها وحده ، فيغلق أذنيه وعينيه ، ولايسمع إلا صوتها ، ولايرى إلا عينيها .

(6)

      وتعود على تلك الصباحات الجميلة التي تخصه بها وحده ،  ينتظرها كل صباح لتدخل عليه الغرفة وهي تهمس بصوتها الداخل في أعماقه :

     - صباخ الخير .

     فيرد وهو يقطف من ملامحها :

     - صباح النور .

     فتغرس إبتسامتها في إبتسامته في لحظة وكأنها القُبل ، وكأنها مطارحة الشوق ، فما يفصلهما مجرد مسافة بسيطة ، ولكن مسافة محاطة بالأعين الآكلة والمراقبة والمتابعة والمشتاقة ، ولكن المقبلة لا تنظر إلى شئ غيره ، لاترى غيره ، إنها تدلف إلى الغرفة من أجله ، قالتها له صراحة أكثر من مرة ، وأكدت أنها لاتدخلها في غيابه ، تتحجج بكل الحجج من أجله ، تلقي بتحية الصباح له وحده ، تخصه بإبتسامتها المخلدة في كيانه وحده ، فلماذا يفعلون هكذا ، لماذا يحاصرونها هكذا‍‍‍؟ ، لماذا يريدون أخذ شئ بالقوة ، لقد وهبته عينيها فلا تنظر إلا له ، ووهبته إبتسامتها فلا تبتسم إلا له ، ووهبته صباحاتها المشرقة كوجهها فتختصه بها وحده دون غيره ، فلماذا يفعولون ذلك ؟، لماذا يريدون أخذ شئ لايملكونه ، ولاترغب في توزيع عطاياها  .

       صرخ في وجوههم وهو ينظر إليهم بحنق فقهقة الشباك وأحدث صريراً وكأنه يعترض :

      - ماذا قدمت لها أنت حتى تأسرك بكل هذا ، وأنا واهب لها الضوء والهواء .

      اعترضت الأرض وهي تزعق :

     - بل أنا أبسط جسدي من أجلها ، استقبلها بحنان وحب

    تدخل السقف و........

      شعر بوجع في رأسه ترك المكان يهذي ، وهو في طريقه شاهد ابتسامتها تخترقه ، وكأن عينيها تسأله : (( إلى أين يا حبيبي )) فخرج مسرع الخطى على غير هدى.  

(7)

    بعد أن تعود على صباحاتها الجميلة ، وتأسره كل صباح بنظرتها الأسطورة ، وماعاد يعبأ بعراك ما حوله الذين تأكلهم الغيرة ، ويتقاذفهم الوجع ، دخلت عليه في الصباح الجديد وبعد تحية الصباح طلبت منه منديلاً ، فأخرج علبة مناديله الورقية وناولها إياها ، أخرجت منديلاً منها وناولته إياه ، ماحدث مغاير تماماً لكل متوقع ، هذا التماس بين الأصابع له وقع لا أعتقد أن أحداً شعر به قبله ، وقع أهتزت له كل القلوب من حوله وشاركوه تلك الهزة العنيفة ، والرعشة التي إجتاحت كل كيانه .

         كأن الشمس زاد بريقها من هذا التماس ، كأنها تعلن فرحتها لهذه المشاعر الغائرة المتأججة .

        كأن الهواء الغيور يشاكسهما وهو يطلق قذائف هوائه على وجهها ، فترمش عيناها من هذا الفعل .

       طرح هذا التماس غير المتوقع ثماره على إبتسامتها المشتعلة ببريق يدخله فيتداخل كله في كله ، ود أن يلثم مكان هذا التماس العجيب ، أمامها . لا .. ربما يشعرها هذا بالخجل ، ربما يضايقها هذا الفعل ، ولكن أحس بشفتيها وهما ينخلعان ويجوبان مسحاً مكان تماس أصابعه ، وجد عينيها تقفز تتنقل وتتوغل عبر كل مساماته المرئية وغير المرئية ، كل ما مر به من تجارب وهم ، خواء ، فقاعات هواء ، هي شئ مغاير تماماً ، دخلته ، سكنته ، أعلنت إمتلاكها من نظرة وكلمات قليلة ولمسة من أصابعها المرمر .

     وكأنها تحثه على هذا الفعل اللذيذ وهي تطلب منه أشياء صغيرة ، فليبي الشايف طلبها على الفور ، وهو سعيد مخلوع من ذاته بعد كل لحظة تماس ، ينتظر منها اللحظة بشوق عارم .

(8)

     ما حدث جديد ومختلف وغير متوقع أن يتم بهذه السرعة ، كان يتمنى أن يكون هو البادئ ، ولكنها سبقته كعادتها ، واعترفت له في لحظة سرقتها من العيون المتلصصة ، الشايفة ، قالت له :

     -عيناك جميلتان ، أحلى عينان شاهدتهما في حياتي .

      همس المخلوع :

     - بل هما عيناك ، عيناك أجمل عيون في الدنيا  ،.

      وأكد لها أن "العيون السود" ملهمة الشعراء على مر التاريخ البشري ، ومعظم أهل الطرب تغنوا بالعيون السوداء وجمالهما الفتاك ، قال ... وقال ... ، وأفاض ، والمفتونة تتسع إبتسامتها حتى وصلت إلى الشمس التي أرسلتها عبر أشعتها على القلوب فشعر الكل بنشوة غريبة تدخلهم ، أحسوها وتعجبوا من هذا الشعور المفاجئ وغير المتوقع ، وانتشر الخبر باحثاً عن سر ذلك الذي حدث للجميع ، وكثرت علامات الإستفهام  والتعجب ، وسرعان مانسي الجميع تلك اللحظة الجميلة ، ولكن الشايف والمفتونة تبادلا الإبتسام ، ونظرات الحلم الجميل ، وأصرت المفتونة أن عينيه أجمل عينين ، وأكد الشايف إن عينيها هي أجمل عيون في الدنيا .

     وفي لحظة جوارهما امتزجت عيناه الملونتان بعينيها السوادوين ، وتداخلا في عناق جميل ، وارتوى كل من كل .

      لم يعجب المتلصص هذا الذي حدث ، وكأنهما إرتكبا جرماً ، فإنتهز فرصة غياب الشايف وانهال يكيل الإتهامات للمفتونة ، ويؤكد على أنها غير طبيعية وماتفعله لم يفعله غيرها ، فكتمت المفتونة وجعها من هذا المتلصص ، غير مصدقة مايحدث .

     الأرض والسقف والباب والشباك والمكتب و... وكل الكائنات الساكنة والمتحركة إجتاحتها لحظة صمت ، لحظة خرس ، وكأنها شامتة ، وكأنها تؤيد المتلصص في غيرته ووجعه ، وفي صباح اليوم التالي ، خصت الشايف بالإبتسامة المعهودة ، وصباحها الجميل ، وعندما وجدت فرصة سانحة همست : عيناك جميلتان ...................

     سمع المتلصص فتحول إلى كائن هلامي قمئ ‍‍.

     وكثرت الكائنات الهلامية .

(9)

     الصدفة وحدها هي التي لفتت نظره ، وبدأ يعيد حساباته ، لم يتوقع هذا التكتل ضده ، بل ضدهما ، شاهدهم يلتفون في شكل دائري ، وعندما شاهدوه إبتلعوا ألسنتهم ، ولكن أذنه التي طارت بغير إرادته تلقفت بعض الكلمات التي تطايرت من تلك الحلقة .         

       قال كبيرهم :

      -هي السبب ، هي التي تذهب إليه .

      أضاف بعد مناوشات بينهم :

     -  اتركوها لي  .

      أُذن التي أحتوت ألقت بما حوته في كيانه ، توغلت الكلمات ، تحولت إلى فئران ، سرحت في أعماقه تأكل  تمارس تجوالها وقرضها لكل ما يقابلها ، لم يحتمل وحده هذا الوجع ، صارح الشايف المفتونة بما دخله ، فأفضت له بما فعله معها المتلصص في غيابه ، وهمست المفتونة في حنان دغدغ كل الكائنات من حولها :

     -   لايهمني كل مايحدث ، المهم عندي أنت .

       تعملق الشايف ، استطال وصلت قامته للسماء ، ناطحت الشمس ولم تعبأ بصهدها ، وهو ينظر أسفل قدمه شاهد أقزاماً يتشكلون في حلقات ومثلثات ومربعات ، أسراباً كالنمل تتهامس ، خشى أن تتحرك قدمه فيدهسهم ، أو أن يحرك يده فيتطايرون من فعل الحركة ذاتها ، ورغم إستطالته وتقوزمهم إلا أن رائحتهم النتنة تصفع أنفه الشامخ .

      جلس على كرسيه خلف مكتبه ، كانت قريبة منه ، تكاد تدخله ، تمتزج به ، وكأنها امتزجت ، شعر بالعطش فأرتوى من بحر عينيها ، مسح بإبتسامتها وجهه فامتلأ ، وكأن هذه الكائنات الهلامية  لاتريد أن تهدأ فتحولت إلى حشرات صغيرة تحوم حولهما ، تقطع عليهما حديثاً عذباً ، فيهش ، وينش وهي تنظر في دهشة من تكرار الحشرات اللعينة  للمحاولة ، وكلما إتسعت إبتسامتها زاد الطنين ، وكلما نظرت إليه حلقت حوله ، وكلما تكلمت لطمت الهواء بأجنحتها وكأنها تعترض ، وتقف حائلاً لتمنع دخول الكلمات إلى أعماقه .

      همست المفتونة :

     -  كل هذا لايهمني ، المهم أنت ، أنت وحدك دون البشر .

      شعر بقامته تخترق السحب وتصل إلى عنان السماء ، تلفت حوله ،  وجال بعينيه في المكان باحثاً فلم يشاهد غيرها ، لم يشاهد إلا عينيها السوداوين ، وإبتسامتها التي إفترشت كل المساحات المرئية ، وكلماتها الداخلة في مساماته .

(10)

      صادق الشايف القمر والنجوم ، يخرج عليهم لايعبأ بأفاعيل الطقس ، وكثيراً ماقال له القمر المتعاطف : 

     - أدخل غرفتك وتدثر من الريح الغادرة ، الغيورة ،

     فيعترض الشايف :

     - كيف ياصديقي وأنا لم أنته بعد من بث سلواي لك ، أما عدت تستريح لي ، هل كلامي يضايقك ؟! .

     قال القمر :

     - كيف تقول هذا ياصديقي ، وأنا استمد نوري وضيائي من حديثك ، أمتلئ من عاطفتك المتأججة ، فأنا صديق كل العشاق ، ولولاهم ماتوهجت ، وما ألقيت بهذا النور على هذه النجوم المتلألئة التي تحرض العشاق وتتابع نجواهم ، وأشعر بالاختناق عندما لا أجد من يبث لي أشواقه وسلواه ، وأحيانا تحجبني السحب عنكم عندما تغيبون عني كثيراً ، فأنتم زادي وأنا سلواكم ، وبدونكم لن أكون قمراً، بل سأتحول إلى نجم أخرق مظلم .

      مرت سحابة وعندما اقتربت من القمر أزاحها بعيداً ، فتهشمت فسقطت مفتتة تغرق الأرض ، ضحك القمر وهو يزداد بهاءً .

     وقال للشايف المتابع : 

     - ألم أقل لك ياصديقي أنت زادي ومنبع قوتي .

      قال الشايف :

     - وأنت سلواي ونجواي وصديقي  وكاتم أسرار عشقي .

       ثم صمت قليلاً وأردف :

    - أريد أن أطرح عليك سؤالاً ؟!

      قال القمر :

      - هات ماعندك ؟‎

     قال الشايف متعلثماً :

    - هل تبث لك المفتونة بأسرارها وتحكي لك عني مثلما أحكي لك عنها  ؟!

      إبتسم القمر فتلألات النجوم وتراقصت وقال :

     - نعم ، تحكي لي عن كل شئ .

      بادر الشايف مسرعاً :

     -   ماذا قالت لك ؟

      ضحك القمر فاهتزت النجوم والأرض ومادت السماء ، وتحركت الريح ، وابتعدت الغيوم منزوية ، ثم نظر إلى الشايف في حنان أبوي وقال :

     - القمر كاتم اسرار العشاق ، يسمع ويبتلع ، أنا صديقكم جميعاً ، والصديق يحفظ سرك ولا يطلع أحداً عليه .

       خجل الشايف من كلام القمر ، فضحكت الأرض وهمت بإبتلاعه  ، فسارع القمر :

     - لاتخجل من قولك ياصديقي ، لك عذرك ، ولي .

     فأنزوت الأرض وأقفلت فمها الجائع .

(11)

     لحظة جديدة أضافت إلى عمره الكثير ، داعبت كل كيانه المتوهج بها ، عندما دخلت عليه منفرداً ، وعندما أحس بقدومها أمسك بالكتاب منغرساً فيه ، ودقات قلبه تصفع الباب وتقلق الشباك ، وتداعب نسمة الهواء الحارة التي تتحرك رغماً عنها بفعل المروحة ، ودخلته بإبتسامتها ، وعندما تقابلت العيون ، سُرق الذي نظر من ذاته ، وانصهرت ذاته في ذاته ، وعندما استراحت اليد في اليد تمنى أن يناما هكذا ، لفعل يديها الباردة دوماً إشتعال قوي يحرق ، ويشوي ، فيتقلب قلبه على جمر روحه ، ويمرق الجسد المشتعل إلى كياناتها ، جلست وهي تدخله بعينيها الجريئتين ، اللتين تحدثانه دائماً ويبثان له الشوق واللهفة ، قالت وهي تضع الساق على الساق فتنفر واحدة وينخلع قلبه ، وتتقلب الكائنات الهلامية والجامدة على جمر الهوى ، تأكلها الغيرة بعد أن تأكدت أن كل ماتفعله له وحده ، قالت له:

      - النزوة الزائفة تموت بعد الفعل ، أما الحب ، العشق الصادق المنزه من الهوى فهو الدائم ، وأنت الوحيد الذي أشعر معه بالسعادة ، وأتمنى أن أقضي عمري كله بجوارك ، معك ، أشعر أنك تحبني بصدق ، وهذا يكفي .

    ( صمتت لحظة .. برهة .. ثم أردفت ) :

     - كنت أتمنى أن تكون زوجي ، كنت فعلت المستحيل من أجل سعادتك ، وكنت سأعيش أسعد امرأة على وجه الأرض ، لأنك زوجي ، تعيش معي تحت سقف واحد ، ولكنها الدنيا الغادرة لاتعطي الإنسان كل مايتمناه ، دائماً تحرم الإنسان من شئ ، وقد حرمتني من أهم شئ ، منك أنت .

     جرأتها دائما تحسره ، تضفي جمالاً على جمالها ؛ قال لها هذا ذات مرة ، وأكد لها أن جرأتها الزائدة ، تعجبه ، بل تأسره ، وأنه يحب فيها طبيعتها تلك ، في كل مرة تكون هي البادئة ، أكدت له أنها عندما تسمع مطربته المفضلة ينخلع قلبها وهي تتذكره ، فهمس لها الشايف المتابع ، الغارق في بحرها الأسطوري :

     - تكفيني هذه المشاعر الجميلة حبيبتي ، بل تكفيني لحظة واحدة أراك فيها وأسعد بقربك ، ألمس يديك ، أداعب خصلات شعرك ، أشعر بأنفاسك تخترقني .... ( شاهد خجلها يُرسم على تقاطيع وجهها ، فزاده جمالاً  ) .

     فأبتسم وهو يهمس :

     -جمالك رائع في لحظة الخجل هذه .

       فأرسلت بشعاعها  ، فاستقبله كيانه ، وكأنه شحنة كهرباء أمدته بالطاقة فقال وقال  ،لا يعرف ماذا قال ؟ ، ولكن كل ماقاله خرج من كيانه صادقاً ، لم يخطط له، لم ينسقه ، كأنه يحادث ذاته .

     كيف تجمعت كل هذه الشجاعة وأنطلقت منه لتخرج كلاماً هو خليط من فعل القلب والعقل والروح ؟  ، أحس بتموسقها معه ، لولا حشرة لعينة اخترقت المكان ، وأصرت على مناوشتهما .

      فقالت عيناها :

       - ماذا تفعل حشرة أمام عملاق مثلك ، فليتركها تحوم ، وتحلق ، وتحاول   .

     استراح الذي سمع ، وتعملق ، وتقزمت كل الأشياء . أغمض عينيه ، وأطلق نفسه للريح وهو يحملها بين ذراعيه ، يداعب خصلات شعرها النازل على جبينها ، ويلمس أصابعها  ، ويقترب من الشفتين اللتين حار في أمرهما ويقبلهما من كل الاتجاهات ، وفي كل مرة يشعر بطعم جديد ، والمفتونة مستسلمة ، على عكس ما كان يتوقع منها ، فجرأتها الزائدة خيلت له بأنها ستكون البادئة في هذه اللحظة ، أفكاره دخلت فيها ، فقالت له :

     - المناوشة شئ ، وهذه اللحظة شئ آخر ، أنت الرجل ، وأنا الأنثى ، أنت القوي وأنا الضعيفة ، أنت العملاق .......

      قاطعها :

     - وأنت عملاقة وقوية ، ولا فرق في الحب بين رجل وأنثى ، فكلانا له قلب ، وكلانا له روح ، وليس المهم من يبدأ ، ولكن المهم هي اللحظة الصادقة ، تلك اللحظة التي يمتزج فيها القلبان والروحان والجسدان ، تعبثرت التي سمعت، دخلته من كل المسامات ، ودخلها .

     توحدا .

(12)

        الذي إجمتع بهم ، وسمع شكواهم ، ودبر معهم المكيدة ، ظل يحوم حولها ، يقترب منها ، يبتسم ، يتكلم ،  يراودها عن نفسها ، والمفتونة ، تبتسم ، وتتكلم ، والشايف يتابع في دهشة ، يود أن يقول لها إنها مكيدة ، ضحكت الأرض على خيبته الثقيلة ، وصفعه الريح على قفاه وهو يكركر  ، وفغر السقف فاه مدهوشاً ، وعندما شكا للقمر ، وبعد أن فرغ ، حزن  القمر ودمعة تهطل من عينيه ترتعد لها النجوم وتبتلعها الأرض فنبتت بذرة كانت راقدة ، وخرجت شجرة من باطنها تمددت تصارع الرياح ، لها أوراق سوداء تأخذ شكل القلوب وأثمرت  ثمار الحزن والوجع .

      قال القمر :

     - أسمع شكواك ياصاحبي لكني قليل الحيلة مثلك   .

     المفتونة تدخل عليه ، تلقي عليه بتحية الصباح وهي تحاول دخوله بإبتسامتها ، ولكنه في هذه اللحظة مختلف ، مختلف عن أية لحظة أخرى ، همس وهي تحاول إختراقه بعينيها :

      - مابك ؟ ؟!

      - لاشئ .

      -ماذا حدث ؟

      - لاشئ  .

      - أنت اليوم مختلف ؟

       - كيف ؟

     نظرت إليه بعد أن تحولت إلى علامة إستفهام ملأت الغرفة ، ووقفت مشرعة في وجهه ، وهي تهمس بيأس :

       - لماذا تعاملني بهذه الطريقة ، هل فعلت شيئاً أغضبك ، هل ضايقتك في شئ ، هل أحد قال لك شيئاً ، هل ...  قل .. ؟؟! .

     - لاشيء ؟

     قامت وعلى وجهها لمسة حزن إنخلع لها قلبه ، وكأنه قطف من ثمار الحزن وأعطاها ، انخلع كله من كله ، وتفتت ، وانقسم ، كالكل يصارع الكل ، القلب الموجوع يؤيد فعلته ، والعقل المتابع في حيرة ، والروح الهائمة مخلوعة لمعاملته السيئة لها ، والجسد يرتعش صامتاً وكأن لحظة شلل أصابته ، لماذا لاتصارحها ، لماذا لاتقول لها الحقيقة ، لماذا لاتلقي عليها بوجعك وتتركها حائرة ، كانت تحادثك وكأنها بريئة . ولكنك شاهدتها بعينيك وهي تبتسم له ،  يجلس بجوارها كأنه عشيقها ، وهي تهمس له ، وعندما شاهدتك نظرت إليك نظرة لم تعهدها من قبل ، نظرة مختلفة ، جديدة . هل قالت له ماقالته لك ، هل .. هل .. ؟؟!! .

      - عبيط .

      نظر حوله ، وجد الشباك يتفوه بها وهو ينظر إلى الباب ضاحكاً ، ويومئ الباب الموارب وهو يداري سخرية :

     -  ليشرب ، من يأتمن لأنثى .

      نظر إلى كل ماحوله بضيق ، وزفر ،  ونهض وغادر المكان بعد أن حاصره الهواء وقرر أن يخنقه ويقضي عليه ، فهرول خارجاً  بحثاً عن هواء مخالف لايعرف الغيرة .

(13)

     وكأن شيئاً لم يحدث ، وكعادتها الصباحية ، دلفت محملة بإبتسامتها ، تطلق شعاع العينين ، وهمست في رقة أذابته :

     - صباح الخير .

      نظر إليها غير المتوقع بدهشة وخطف لسانه الكلام وهو منغرس بعينيه على زجاج المكتب :

      -صباح الخير  .

     ا قتربت المفتونة وهي تحاصره :

     -ماذا حدث ؟ .

      نظرتها ، ابتسامتها ، سحر صوتها ، أذابوا كل شئ بداخله ، تبدل ، خرجت الكلمات من كل مساماته :

     -  قلتُ :  لا  شئ .

      قالت المفتونة :

     - هل ضايقتك في شئ ؟! .

      وكأنه يود احتوائها ، ضمها إلى صدره ،انخلعت يده من كيانه وصافحت يدها، وتشابكت الأنامل ، غارت العينان المشتاقتان فغادرته بدون استئذان وانصهرت في سواد عينيها ، ولم تستطع الشفتان الانتظار فركبت الهواء وطارت لتحط على شفتيها الناريتين ، وعندما تفكك وتمزق ، تلملمت الأشلاء .. دخلتها من كل المسامات وتلاشت فيها  .

همس بصدق :

     - ليت كل النساء مثلك .

      أضافت المفتونة :

     - وليت كل الرجال مثلك .

    وتوحد الصوتان وهمسا : 

     - ليت كل الناس مثلنا ، لعاش الجميع في سلام   .

     الشباك الغيور شعر بالخجل من غيرته ،و أقسم أنه لن يضايقهما مرة أخرى ،  وأرسل لهما نسمة هواء رقيقة داعبتهما ، وقال لها وهو يدفعها إليهما :

      - كوني لهما نسمة سلام ، وسفير حب ، ابعثي في روحهما الطمأنينة   .

(14)

    تبحث دائماً عن راحته ، يقلقها توتره ، تجتاحها لحظة حزن تنطلق من عينيها وترسم خطوطها على ملامح وجهها عندما تجده غاضباً ،أو  لا يعيرها إهتماما، تعرف أنه عندما يغضب يتعمد تجاهلها ، وتعرف أن ذلك أسلوب تعودته ليلفت نظرها إلى شئ ، وتعودت أن تكون البادئة ، وأحب فيها ذلك ، وكأنها تريد أن تضع حداً لأشياء كثيرة تدور في خلدهما ولا يتحدثان عنها ، وفي لحظة انسجام الروحين ، وتوحد القلبين ، و......

     همست :

     - أعرف أن نواياهم سيئة ، وأنهم يفعلون أشياء كثيرة من أجل أن يبعدوني عنك  .. ، أنت أفضل منهم جميعاً .

     - ولكنهم لن يتركونا في حالنا !

     - لايهمني شئ مادمت أنت معي ، أنت الوحيد الذي يهمني ، أما هم لاقيمة لهم عندي ، فلينبحوا كالكلاب .

     دائما تضع لكل شئ حلاً  ببساطة ويسر ، وكأن أنامله المشتاقة قفزت وداعبت خصلات شعرها المتصالح مع الهواء ،وكأن تقاطيعها امتزجت في تقاطيعه .

      وكثيراً ماحكت له المفتونة عن واحد منهم ينظر لها بغيظ وغيره أشار لها بأن ماتفعله خطأ ، وخارج عن المألوف ، وثالث أدخلها في الدائرة المحظورة .

      ويؤكد لها المفتون بأنه يتابع مايحدث ، ويعرف مايدور ، وأن سكوته عليهم من أجلها فقط ، لايريد أن يسبب لها مشاكلاً .

     فتؤيده المفتونه وهي تهمس :

     - دعهم كالكلاب الضالة ، لايعنينا من أمرهم شيئاً ، ولن يثنيني عنك شئ ، لأنك الوحيد الذي امتزج في، أحس معه بطعم الحياة ، أشعر بصدق مشاعره .

     وبعد أن تمده بزاد عينيها ، وتدخله دائرة إبتسامتها ، تقول بتلقائية تدغدغه :

     - "هي الواحدة عايزة إيه أكثر من واحد يحبها بصدق ، يحتويها بحنانه ” .

      فيذوب المفتون ، يتبعثر ، يـ .............

(15)

    عندما بدأت ملا محه تتوتر في فعل الذبابة التي تحلق حوله ، وتحدث طنينياً يزداد حتى ملأ الغرفة ، قالت له بعينيها :

     - انظر جيداً

     وعندما ارتسمت علامات الاستفهام على جبينه :

    قالت عيناها :

     - انظرالذبابة اللعينة .

    جالت عيناه على الذبابة اللحوحة الطنانة .

    همست عيناها السوداون :

    - عرفتها ؟.

    - ربما .

    أطلقت المفتونة لابتسامتها العنان فأسلم الروح ، وهمست :

    - إنه كبيرهم ، لم يجد حيلة ليتجسس علينا ، ويقطع توحدنا إلا هذه الحيلة القذرة مثله .

     اندهش الشايف وهو منغرس في الدهشة، متأملاً الذبابة ، نعم الوجه هو الوجه، والرائحة هي الرائحة ، و ......

     أخرجته من دائرة الدهشة وقالت :

     - هذا لايهمني ، كل مايفعلونه يزيدني إصراراً وعزيمة على التمسك بك .

     افْتُتِنَ الشايفُ الذي سمع ، ونفخ في الهواء تجاة الذبابة اللحوحة الطنانة ، فوقعت على الأرض وهي تتألم ، وزحفت مكسورة الجناح خارجة بعيداً ، وتلاقت العيون وامتزجت .

     قال الباب الشايف :

     - ياخجلي ، ياوجعي ، والله لن أضايقكما مرة أخرى، وسأكون ستراً لكما وأمنع تلصص  الذباب عليكما ، وأقف حائلاً في وجه من يضايقكما .

     ابتسمت الشمس الشايفة ، وقالت :

     - يا أشعتي كوني برداً وسلاماً على العاشقين المتمين ، وأحضني دفئهما برقة ، وخذي من نور قلبهما زاداَ عند نفاذ الضوء أو حجبه .

     ضحك العاشقان ، المفتونان ، وامتلكا الدنيا بأسرها .

(16)

      وكأنه يراه للمرة الأولى ، هي الحقيقة لم يره من قبل ، ربما كلامهم الكثير ، نظراتهم الدالة ، عيونهم المتلاحقة الفاضحة ، قولهم لها صراحة ، وتأكيدها له أنها لم تشعر بهذا الفرق من قبل ، ولن تشعر به .

     قال المفتون وهو يتلظى على نار الوجع :

      -كل ماحولنا تصالح معنا ، تعاطف معنا نزع من قلبه داء الغيرة القاتل ، الذي يعمي البصيرة والبصر ، كل ارتد له بصره وبصيرته ، انظري إلى سعادة الشباك وهو ينظر لنا ، وتعاطف الباب وهو يتأملنا ، وحنان الأرض وهي تحملنا على جناحيها ، و حنو السقف وهو يظللنا ، ورقة الهواء وهو يلاطفنا ، والشمس وهي تناوشنا ، ... الكل متعاطف ، يبارك حبنا ، ويصفق لعشقنا .

     ( يصمت قليلاً وهو يخرج زفيراً أحزن من حوله ،  وأنخلع له قلب المفتونة )

      وأكمل :

     - إلا هذه الكائنات الهلامية القذرة ، لا أدري ماذا تريد منا ، لماذا يقفون حائلاً بيني وبينك ، لماذا يحاولون التفرقة ، هل لأنهم ....

     تقاطعه المفتونة :

     - قلت لك مراراً ، أنت أقرب لي منهم ،  لاقيمة لهم عندي ، تجاهَلْهُم ، ولا تفكر بهذا الأسلوب مرة أخرى .

     ينغرس المفتون على معصمها وكأنه يراه للمرة الأولى .

     دخلت المفتونة ، وعندما قرأت السطور ، شعرت بوخزة في قلبها، ولكن العاشقة تمالكت وأرخت ابتسامتها فمادت فملأت المكان سحرًا، وأمسكت بيدها السطور الهشة ، وألقتها في صندوق القمامة أسفل قدميه ، وكأن الذي أفرغ شعر بالراحة ، فأتسعت إبتسامته تتعانق مع إبتسامتها ، فتراقصت كل الكائنات إلا الهلامي منها ، فأغمضا عيونهما ، وأطلقا لقلبهما وروحهما العنان .

(17)

     يرقب من بعيد هذا الحصار المفروض عليهما .

     قالت لهما الشمس وهي تخترق الشباك لتطل عليهما باسمة ، مشرقة :

     - أنتما مثلي واضحان ، لذلك لاتهابا ن أحداً ، الخفافيش هي التي تخافني ، وكذلك اللصوص والمخطئون ، أنتما صديقاي ، سأهبكما وضوحي ، وأنثر عليكما من نوري ، وسأجند أشعتي لحمايتكما لتكون دفئاً وحناناً لمن يحبكما ويبارك طريقكما ، وتتأجج صهداً لمن يحاول النَيْل منكما أو الوقوف في طريقكما ، امضيا، أنثرا بذور روحيكما ، واتركا لقليبيكما العنان ليتركا  لمخلوقات الله طريقاً تنشده القلوب المتآلفة ، والأرواح المتموسقة ، ليكن حبكما منهاجاً ودستوراً للعاشقين ، ينهلون منه زاداً للرحلة الوعرة ، الجميلة .

     نزلت كلمات الشمس علىالقلبين ، الروحين المتآلفين ، فتعملقا ، نظرا تحت أقدامهما لم يروا غير أقزام من حولهم ، والشمس تنظر لهما وعلى جبينها ابتسامة تزيدها بهاءً، والرياح تداعبهما فيتراقصا  وهما متشابكان ملتصقان ، كل شئ اهتز طرباً لهذا المشهد الرائع .

     الفئران لم تتحمل ما ترى ، أصابها الذعر والهلع ، فهرولت إلى جحورها ، المخلوقات الهلامية تجمدت في أماكنها  ، انطلقت العصافير والبلابل تعزف لهما سمفونية العشق ، وتحثهما على المزيد .

     كم مر من الوقت وهما في هذه الحالة ؟ .

     الزمن وقتها توقف ، كل شئ توقف ؛  الوجود كله هما .

     ودعتهما الشمس وهي تبارك طريقهما ، فخرجت الفئران من جحورها وهي تقرض في جسدهما ، و أذابت الكائنات الهلامية الجليد من على جسدها العفن ، وأطلقت فحيحها النتن ، وصرخ كبيرهم :

     - كيف يحدث هذا  ؟! ، والله لن نسكت ، هي منا ، لنا ، كيف تحولت ، لن نتركها الفاجرة .

     سمعه أحد الفئران وهو يحادث الكائنات الهلامية التي تعتصر غيرة وحقداً ، فقال الفأر وهو يهز شاربه :

     - وأنا سأساعدك ، لن أتركهما .. سنمزق جسدهما أنا وكل الفئران ، سنمزقهما إرباً ، سنلوكهما كاللبان ، وسنعطي كل مخلوق من مخلوقات الله قطعة ، لتلوكهما كل الألسنة .

     شكر الهلامي النتن الفأر وهو يعانقه ، فبصقت عليهما السماء فانكفَئآ  على وجهيهما ، وهما يتألمان .

     صرخ الفأر وهو يحاول النهوض :

     - ماذا حدث ياصديقي ؟

     -أفاعيل الحاقدين ياعزيزي .

     قالها الهلامي وهو يتأوه من فعل السقطة ، ولم يشعر بفعل البصقة ، فجسده العفن يطفح مادة رغوية نتنة جعلته لايشعر ولايحس بما يتكالب على جسده .

(18)

      بثت له وجعها من ذلك الذي غازلها بوقاحة في الصباح ، فأراد أن يخفف من وجعها  فداعبها :

      - يوجد فيك شئ يجعل كل كائن يعشقك من أول وهلة .

      قالت جادة وهي تواري خجلاً ، أضاف إلى جمالها الكثير :

     - ولكن لا أريد أحداً غيرك ، يكفي أنك تحبني .

     دغدغدته الكلمات ذلك المفتون ، وامتزج في بحر عينيها ، وتاه في تضاريس وجهها ، وتقاطيع جسدها الحنّان . وأكد لها المفتون أن أسعد لحظة في حياته هي التي يقضيها معها ، فتبعثرت المفتونة التي سمعت ، تناثرت ، امتزجت  ، جالت عيناه تلملمها ، توقفتا   على معصمها ، تسمرت عليه ، الأرض التي قرأت سطور أفكاره ، قالت :

      - ياكلمات ، ياعاشقة ، تعالي ، أدخليني ، ارويني من حنانك ، أسقيني من شهدك .

      انغرست الكلمات في الأرض ، توغلت تروي عطشها ، أنبتت العاشقة زهوراً ووروداً ، وحدائق غناء ، ورسمت باخضرارها وزهورها ومسكها وعنبرها هيكلاً لمكان ساحر له من الوقار و الهيبة ، هبط القمر  (( الهلال )) ، فاستقبلته الورود والزهور بفرحة وتناثرت بداخله صانعةً علامة ((  الجمع ))  ، ((  الموجب  )) .

       من ينظر إليهما يحتار في أمرهما ، متعانقان ، متقابلان ، متداخلان ،يتهامسان، يتناجيان،  وأنطلق أريج الحدائق الغناء الفواحة ، تتناقله الرياح ، إستنشقت كل الكائنات  هذا العبير الفواح ، وأنتشت .

       في الأرض والسماء والبحار والمحيطات ، حتى ديدان الأرض .       

      وتهامست :

     - من أين جاء هذا العبير ؟

    - ماهذه الرائحة الجميلة ؟

     - من فجَّر هذا العطر الفواح ؟

    قالت الرياح الناقلة ، العارفة :

     - إنه عبير الصدق ، عطر العشق ، شذى التوحد .

     وكأن الفئران لم تعجبها تلك الرائحة فانزوت في جحورها ، والكائنات الرخوية تجمدت ، بعضها هرب إلى أعماق المحيطات ، والتفت العصافير والبلابل وأسراب الحمام تحوطهما .

      والمفتون يلامس معصم المفتونة  ، يتحسسه على ذراعها ذلك الوشم الرامز ، فتغمض المفتونة عينيها وتدخل في اللامنتهى ، يدخلان تحت الهيكل متجاوران ، متلصقان ، متوجهان إلى رب السماء داعيان أن يبارك فعلهما .

    تتراقص الشمس وهي تتطلق بأشعتها التي تتماوج بألوانها الفوسفورية وكأنها تبتهج بتلك اللحظة الخاشعة ، وتداعبهما الخاشعان المتلاصقان ، وتشدو الزهور  بلحن يتناسب والموقف الجليل .

(19)

(( 13 /4/00 ))

     وكأنه المفتون العاشق قرر أن يجعل من هذا التاريخ ميلاداً جديدًا له ، بعد أن  سُرق منه ، تبعثر ، تمزق ، تموسق ، فعلها في هذا اليوم مختلف تماما ، مغاير ، اعترافها أنها لا تحب غيره ، قالت له :

      - حبيبي .. أحبك ، كل شئ فيك أحبه ، أعشقه .

       قالتها من قبل بكل اللغات ، قالتها بكل قطعة من جسدها ، همست بها روحها ، واليوم خرجت من شفتيها ، تطايرت في الهواء ، مرت على الشبابيك والحيطان والجدران والأرض ، ودخلته وجالت في أعماقه ، في كيانه ، انغرست في روحه  ، شعور مختلف يحسه ، قال لها :

     - اليوم ميلادي ، وما قبل .. لا أعرفه ‍.

     فهمست العاشقة :

     - ولكن أنا ميلادي منذ أن رأيتك وتفعالت عيناك  مع عيني ، وعمري أحسبه باللحظات التي أقضيها بجوارك ، أنفاسك أتنفسها فتسري في دمي لتجدده ، وكلماتك غذاء لي بدونها أشعر بالجوع .

     ((جرأتها تضيف إلى جمالها الكثير )) .

      سيظل يردد ويؤكد ذلك . بالإضافة إلى كيانها الناري الذي يشعل رجولته ، وعيناها المخترقتان ، و.....

     قال القمر العارف المتابع :

     - هات ما عندك ، أعطني نورك لأضيء الكون ، مدني بالزاد حتى تتلألأ النجوم في السماء ، هات ماعندك حتى أروي العشاق وآنس وحدتهم .

     قال العاشق :

      - ياقمر أين نجمة حبيتي حتى أناجيها ، أقبلها ، أمد يدي وأداعبها .

      قال القمر :

    - ياعاشق ، يازادي ، كل النجوم ملك حبيبتك ، انظر جيدأ ، أليست هذه النجمة عين حبيبتك ، وهذه النجمة هي شفتها ، وهذه خدها ، وهذه شعرها ، وهذه أناملها ، وهذه ساقها .....

      قاطعه العاشق الهائم :

     - وهذه الساطعة المضيئة التي تملأ الكون بنورها روحها .

     - إذن أنت تعرفها ؟.

     - نعم ، ولكن أسامرك ألست صديقي ؟!

      أومأ القمر ، وهو يبتسم ابتسامة أحسها العشاق فهمسوا بصوت واحد :

     - خير .. القمر ابتسم لنا .

      واقتطفت الرياح من ورود الحدائق الغناء الفواحة الزهور والورود وأعطت لكل عاشق وردة وهي تهمس :

     - هذه هدية أمير  العشاق ، وأميرة العاشقات ، رائحتها تطهر القلوب ، وتقرب المحبوب ، وتمنع الحساد ، و تعتقل الفئران ، وتجمد الكائنات الهلامية .

     أنتشى العشاق من رائحة الزهور ، وأحسوا بفعلها الساحر .

     قال أحدهم :

     - من أين هذه الزهور يا رياح ؟

     قالت الرياح :

     - من أرض العشق ياعاشق، نبتت في أرض طهور  بكلمة صدق ،ولحظة توحد، لايستمتع برائحتها إلا العشاق . 

(20)

      قالت  العاشقة المفتونة للعاشق المفتون ، وهي تبهج الكون بابتسامتها :

     - أمس زرتني في الحُلم .

     ابتسم العاشق المفتون فتعانقت ابتسامته مع ابتسامتها ، فتفتحت مليون زهرة ، فداعبتها الرياح  فدخلت رائحتها كل المسامات ، وقال العاشق المفتون :

     - لم يكن حُلماً يا أميرتي !

     وقبل أن تتسع علامة الاستفهام وتحجب الرؤية ، بدأ العاشق في  وصف غرفة نومها ، جدرانها ، محتوياتها ، السرير ، الملاءة البيضاء ، قميص نومها القرنفلي ، ماقالته له ، ماقاله لها ......

       فأتسعت علامة الاستفهام وتعاظمت ، ولكنه أطاح بها بيده المفتولة :

      - ولِمَ العجب ، إنها روحي التي زارتك ، روحي المخلوعة مني ، ألم تشعري بدفء الجسد ، وفعل الشفاة ، ودغدغة المشاعر .

      غرقت المفتونة التي تسمع في دهشتها وهي تتحسس فعل الأمس ، مكان لمسات يديه ، شفتيه ، ضمته القوية الحنونة  .

     قالت :

     - أأنت جاد ‍؟

     - نعم حبيبتي ، كما جئتِ ليلة أمس ،  ووجدتينني في إنتظارك ، واستقبلتك مقبلاً عينيك الجميلتين ،  و  ....

      قالت الفاتنة المفتونة مقاطعة :

      - مؤكد أنا وأنت أصابتنا لوثة الحب ، أو تقمصنا جن يكشف لنا الحجاب ، وينقل لنا هذه الأسرار .

     أرسلت الشمس وميضها ، وتلاعبت أشعتها ، فعلما أنها إشارة منها ، فنظرا إليها ، فقالت الباسمة :

     - أنه فعل الحب ، الذي يمزج الأرواح ، وإذا تمازجت الأرواح ، أصبح الكل في واحد .

     وكأنهما تراجعا ، وأزالت الدهشة من تقاطيع المفتونة ، وأضافت الشمس :

      - ألم أزوج روحيكما ، ألم أوقع العقد وشهدت عليه الأشعة البنفسجية وفوق البنفسجية ، ألم أعلن زفافهما للملأ ، وشهدت الأرض ، وحضر القمر على غير موعده ليباركهما ، وكل الكائنات شافت هذا الزواج المبارك ، فلِمَ الخجل ، فليسقط الجسد أمام فعل الروح .

     انصهرا اللذان سمعا  ، وذابا في بعضهما ، وكبرت زهرة وتمددت لتظللهما بأريجها وجمالها الفتان .

     خرج فأر فشاهدهما ، وعندما شم الرائحة العطرة ، وضوء الشمس المشاكس هرول داخل جحره وهو يقرض على أنيابه الحادة يأكل نفسه بنفسه من الوجع .

(21)

      خرج العشاق وانتشروا في الساحات وفوق الجبال والصخور ، في الصحراء .. في الميادين والشوارع والأزقة ، يرفعون عيونهم تجاه القمر المخنوق ، وأرواحهم ترتل وتدعوا  أن يفرج الله كربته ، ونادوا على بنات الحور .

      قالت الرياح العارفة :

    -  الفأر اللعين هو السبب ، استغل مرور غيمة تشاكس القمر الوضاح ، وخرج من جحره مهرولاً وأخذ يقرض في جسد العاشقة المفتونة ، والعاشق المفتون ، وتبعته بقية الفئران .

     أما الكائنات الرخوية فزبدت ورغت وأرادت قتل الزهور والورود برائحتها النتنة ، ولأن القمر عاهد العاشقين المفتونين أن يحميهما من غدر الفئران ، وألاعيب الكائنات الرغوية ، فقد شعر بتخاذل مما حدث ، وها أنتم ترون ماحل به من الخجل والحزن .

      قال العاشق المفتون الذي سمع :

      - ماذنبك أنت ياقمري ؟ ، لاتغضب ، لاتخجل .

      وابتسمت العاشقة المفتونة ، داعبت ابتسامتها وجه القمر العبوس ، المخنوق ، فبددت وحشته ، وأذابت الكآبة ، وتسرب شعاعه بطيئاً حتى أضاء الكون ، ابتهج العشاق ، وتلاصقا وهم يغنون ويرقصون تحت القمر الوضاء ، وهمست العاشقة المفتونة :

      - ياقمري ابتهج ، هل يستطيع فأر أن يقرض روحاً ، هل يستطيع كائن هلامي أن يزهق وردة لها جذورها الممتدة في أعماق الأرض والسامقة في السماء ، ومصادقة الرياح.

     انتشت الرياح التي سمعت ،و قالت  :

      - سأردم جحورهم .

      قالت البحار والأنهار :

      سأبتلع هذه الكائنات الرخوية ، وأقدمها طعاماً لكائناتي .

      همس العاشقان :

      - بل اتركوهم يموتون كل يوم بغيظهم ، سيأكلهم الحقد ، ويدمرهم الحسد ، ويقضي عليهم العفن المتأصل فيهم .

(22)

     استلقت الشمس من ضحكتها الواعدة ، واهتزت الرياح محركة كل شئ بقوة ، ومادت الأرض فتراقصت بما تحمل .

    اهتزت قلوب العشاق فرحة ، وارتوت .

     قال الجهلاء :

     - القيامة ستقوم كل شئ يتراقص ، وتعلقت عيونهم بالسماء ، ودقت قلوبهم الراجفة تستغفر الرب ، وأرواحهم تعلقت بالسماء تحاول التخلص من الرجس ، تحاول التطهر  .

     شاهدوا العشاق جالسون في تناغم جميل ، كل خلا إلى حبيبه في لحظة انسجام ، صرخوا فيهم :

      - مجانيين ، هيا هرولوا إلى الرب اطلبوا الصفح والمغفرة ، هذا ليس وقت غرام وهيام .

      ضحك العشاق العارفون ، وازداد تلاصقهم ، ومنهم من أخد يتراقص في سعادة مع محبوبه مع هزات الأرض الراقصة ، وتموجات الرياح ، وشاركتهم العصافير والبلابل وأسراب الحمام هذه الطقوس .

     وسرعان ماعادت الأرض إلى سكونها ، والرياح استكانت ونامت ، فعاد الجهلاء وكأن شيئاً لم يحدث ، قلوبهم عادت كما كانت ، وأرواحهم انغمست في رجسها .

      قالت الأرض الهامدة  :

      - متى يأذن لي الرب لأبتلع هؤلاء المنافقين ؟

     وقالت الرياح الساكنة :

     - لنطلب المغفرة من أجل هؤلاء العشاق الأطهار .

      قال العاشق المفتون للجالسة قبالته تمده بحنانها وترويه :

      - فلتكتمي ضحكتك في القلب ، لاتطلقيها تسرح في السماء وتتناقلها الرياح .

      قالت العاشقة المفتونة :

      - ولكنها تسعد القمر  والريح والأرض ، ماتعودت هذا الحصار ، أنا أغلفك بها ، أحتويك بها .

      - وتقلق آخرين ، إنها تدخلني قبل أن تخرج منك ، ألا يكفي أنا ؟.

     - أنت كل شئ ، قلت لك أكثر من مرة وها أنذا أعيدها .. أتمنى أن أعيش حياتي كلها معك ، بجوارك ، عندما تغيب عني تغيب معك روحي .

       قالتها وهي تلاحقه في عنان السماء بعد أن استطال وتمدد وناطح السحاب وواجه الشمس التي وارت أشعتها الحارقة عن وجهه ، وأستقلبته :

     - أهلاً بأمير العشق .

الفصل الثاني من رواية :  للعشق أوجاع ... هذه منها ..؛ للأديب المصري محمود رمضان الطهطاوي ـ وكالة آرس للبحوث والنشر : القاهرة 2002  رواية :  للعشق أوجاع ... هذه منها ..؛ للأديب المصري محمود رمضان الطهطاوي ـ وكالة آرس للبحوث والنشر : القاهرة 2002 غابة الدندنة : موقع الشاعر علاء الدين رمضان .. .. الإبداع الأدبي .. قسم الرواية
كن للقريب شمعة وللبعيد فناراً يضيء وكالة آرس
للبحوث والنشر والخدمات العلمية والثقافية

ــــــــــــــــــــ

القاهرة 2002

 كن للقريب شمعة وللبعيد فناراً يضيء

Free Translation from Arabic to English and from English to Spanish, French, German, Portuguese, Italian and NorwegianFreeTranslation.com - Free Translation from Arabic to English and from English to Spanish, French, German, Portuguese, Italian and Norwegian المترجم أقوى معين لفهم محتوى الصفحات يترجم من العربية إلى الإنجليزية ومن الإنجليزية إلى معظم اللغات ذات الأصل اللاتيني الخطو على مدارج المدينة القديمة ، ديوان شعري للشاعر علاء الدين رمضان ، الطبعة الأولى 1993 ، منشورات اتحاد الكتاب العرب بدمشق صهيل القصائد .. صفوة الشعراء العرب وعيون القصائد العربية تواصل : ارسل لنا مشاركاتك وتعليقاتك وآرائك بوساطة الموقع مباشرة دون بريد إلكتروني من الأعمال المسرحية للشاعر علاء الدين رمضان
Counter محصي الزائرين محصي الزائرين كتاب الرواية والقص .. منعطفات النثر الموقع : أخبر به صديقاً
الموقعُ : أخبر به صديقاً

كتاب الزائرين

علاء الدين
أكتب للأديب
  وكالة آرس للبحوث والنشر والخدمات العلميةتعالى إلى موقع الشاعر علاء الدين (غابة الدندنة)شبكة الأخوين الثقافية