الفصل
الثاني
الخـبر
(( صوت حبيبي .
هو ذا آت طافراً على الجبال قافزاً على التلال .
حبيبي هو شبيه بالظبى أو بغفر
الأيائل .
هو ذا واقف وراء حائطنا يتطلع من الكوى يوصوص من الشبابيك .
أجاب حبيبي وقال لي قومي ياحبيبتي ياجميلتي وتعالي .
لأن الشتاء قد مضى والمطر مر وزال .
الزهور ظهرت في الأرض ))
نشيد الأنشاد
(1)
ماطرأ عليهما جديد
ومختلف ، حاولا مداراته ومواراته ، ولكن كيف ؟ وهما جسد واحد وروح واحدة ، ومايشعر
به تشعر به هي في التوِّ واللحظة ،
ولكنهما ظلا فترة طويلة يتهربان ، يحولان الحديث .
حتى صرخ الجسد ، جسدها هي ، هو ، وقال
:
- هيت لك .
قالت الروح السامقة :
- معاذ الله .
قال الجسد المتوجع :
- ما أنا بملاك
، لي حقوق مثلك ياروح تماماً ، أَكاد أذبل ، أشعر بالموت يكاد يدثرني ، أريد أن
أحيا ، هبني لحظة حب ، لحظة عناق ،
لتخضر أوراقي الباهتة المصفرة ، لتترعرع جذوري التي يبست ، لتتفتح زهوري التي
أنحبست في براعهما وكادت تجن من سجن وحدتها ، هبني لحظة بلسم لنصفي الآخر الذي
ألمسه ويلمسني ، يحترق من أجلي وأحترق ، دع النصفين يمتزجان ، يطفئان النار
المتأججة .
صفعت الروح
السامقة الجسد المتمرد ، المتأجج ، المشتعل ، وهزته بعنف وهي تصرخ راجية :
- لماذا تريد أن تأخذ
ما ليس لك ، كيف ترتكب الخطيئة ؟، كيف أقابل القمر؟، وأنظر إلى الأرض ، وأواجه
الريح ، ماذا أقول لكل هؤلاء ؟ ، وفوق ذلك كيف أسكنك بعد ذلك وأنا لا أشعر بالأمن والطمأنينة ، ماذا حدث لك
أيها الجسد المتمرد ؟!! .
- لاتلمني ياصديقي ،
فأنا مثلك تماماً أذوب في نصفي الآخر ، أراه أمامي كل يوم ، أشعر بالنداء ، نداء
الطبيعة .
قالها الجسد
المنشطر ودموعه تنهمر ، تسربت في جدول ، تغلي ؛ تتلظى من سخونتها الأرض ، وتهرب من
أمامها الرياح ، ولكن الشمس أرسلت
إليها أشعتها في تحدٍ ، وهي تصرخ صرخة زلزلت الكون :
- أنا أقوى منك
وأشد اشتعالاً .
همد الجسد
المشتعل ، وأحس بغربة تجتاحه بعدما خاصمته الروح الصديقة ، وانزوت جانباً تتعجب
ونصفها الآخر من الجسد المنشطر المتمرد .
(2)
القمر الشايف لم يعجبه
مايدور ، فقال للجسد المشطور ، والروح المنزوية :
- تعاليا ، لماذا
ياجسد تغضب روحك ؟! .
قال الجسد
الشاكي :
- الروح أنانية ، أخذت
ما أرادت ، كل يوم تتناجى مع نصفها الآخر ، يتناجيان، يمتزجان ولايفترقان ، وعندما
طالبت بحقي المشروع مثلها وقفت في وجهي ، لماذا لا أتوحد مع نصفي الآخر أسامره
ويسامرني ، أداعبه ويداعبني ، يرويني وأرويه ، أطفئ نار الشوق المتأججة فينا .
صرخت الروح :
- ليس من حقك
ياجسد ؟
نظر الجسد بحنق :
- لماذا تحر م عليّ ،
ما تفعله أنت .
- أنا روح أسمو عن
الشهوة .
- وأنا جسد
خلقني الله هكذا والشهوة هي زادي ووقودي فلماذا تحرمني منها ؟!.
احتار القمر من
صراعهما ، وربت على الجسد ، وقال له بحنو :
- لاتغضب من الروح
أيها الجسد ، أنا معك في كل ماتقول ، ولكن الظروف هنا تختلف ، أنت لك نصف آخر من
حقك أن ترتوي منه وتأخذ متطلباتك كما تبغي.
- ولكن أبغي هذا النصف
، نصفي هذا هو سلوتي وحبيبي .
- هذا مخالف للنواميس
، أنت تستطيع السيطرة على شهواتك ، ولكن الروح الهائمة السامقة المنزهة من الشهوات
تحب ما يتوافق معها ، تظل هائمة في ملكوت الله حتى تجد نصفها الآخر ولا تتحكم في قدرها ، أما أنت ياجسد
فقدرك هو نصيبك ، فكيف تخرج عن النواميس وتسقط في الخطيئة ؟! .
قال الجسد
الموجوع المشتاق :
- ياقمر كن عادلاً
وقدر وجعي ، أنا أعرف أن لي نصفاً آخر ولكن لا أشعر بكياني معه ، مثل الروح تماما،
وأنا لا أجير على نصفي الثاني وأعطيه كل حقوقه ، وإن كانت على مضض ، رغم أنفي ،
ولكن منذ أن عرفت هذا النصف الجميل ، وأنا أشعر بالإنشطار ، أشعر إنني مخلوع مني ،
لست أنا ، إن هذا الماثل أمامي يشارك روحي بهجتها هو نصفي المفقود ، أعرف النواميس
، وأدرك كل مايجول بخاطرك وخاطر الروح والأرض والريح ، ولكن ماذا أفعل وأنا أكتم
النار المتأججة التي تأكلني في اللحظة ألف مرة .
نظر القمر المتعاطف
للجسد المتأجج وقال :
- أوقعتني في حيرة
أيها الجسد المشتاق .
(3)
- ”وبعدين ياشمس
”.
قالها الجسد المشطور
المتلظي .
نظرت إليه الشمس
العارفة ، فأضاف :
- أنت تعرفين أنني
مثلك تماماً ، شاركيني وجعي ، شاركيني انقسامي ، شاركيني تمزقي ، تبعثري ، ماذا
أفعل يارمز الوضوح ؟، ماذا أفعل وأنا أشعر بغربة مع نصفي الآخر ؟! ، وأتوق إلى
نصفي المشطور ، نصفي المشطور هو نصفي المفقود ، يرضيك ياشمس أن أعيش مع نصف لا
أرغبه ، أدخله ويدخلني وأنا لا أشعر بوجوده ، وعزائي الوحيد أني كلما قابلته ،
كلما شاطرته مطلباته تخيلت أنني أشاطر نصفي المشطور ، الحاضر الغائب ، يرضيك ياشمس
هذا التعبثر ؟!
احتارت الشمس
العارفة ، وحاولت أن تُوارِى خجلاً ، ولكن الجسد المشطور قفز حتى كاد يلامسها وهو
يكاد يشتعل من النار المتأججة بداخله ، وهمس :
- أعرف
أنك لاتجدين رداً ، تتهربين مني ، مع أنني تعودت منك الوضوح والصراحة ، لماذا لا
تمدين لي يد العون .
الشمس الساكتة ،
نظرت إلى الجسد ، دخلها وجعه ، فازداد اشتعالها ، زاد وهجها ، هطلت دموعاً من نار
، فأشعلت النار في الرياح ، فطيرت الرياح ذرات الوجع ، هرولت الكائنات تتوارى من
أشعة الشمس الحارقة ، من قاوم وكابر أصابته النار الحارقة بلطمة قوية أردته قتيلاً
.
خرج العشاق
والنار تتأجج بأجسادهم ، وهم ينظرون إلى الشمس في رجاء ، ووقفوا في مواجهتها ،
قالوا :
- حنانيك ياشمس
، ألا يكفي النار التي تتأجج داخلنا حتى تزيدنها بنارك .
نظر الجسد المشطور إلى
الروح الهامدة المخاصمة وقال :
- أيرضيك
ياسامقة مايحدث ؟ أنت السبب كيف تعشقين روح نصفي المشطور، ولا تساعديني على اكتمال
هذا العشق .
حلقت الروح على
الجسد المشطور ، فشعر ببرودة
وقشعيرة تجتاحه لطفت قليلاً من النار المشتعلة ، وهمست الروح بعطف :
- ياجسد ، يا
شريك ، أنا أشعر بما يعتريك ، وأتمنى أن يجمتع شطراكما حتى تكتمل سعادتي واشعر
بالاكتمال ، فأنا متعبة مثلك ، أتلظى من أجلك ،ولكن كيف أساعدك على الخطيئة ؟! .
صرخ الجسد كالمجنون :
- سنرجع مرة أخرى لهذا
الكلام ! .
- هذه الحقيقة التي لامفر منها .
- والحل يا سامق
، سأظل هكذا ممزقاً ، مشطوراً ، أعيش مع نصف لا أرغبه ، لا أحس بوجوده وهو ملاصق
لي ؟
- سنجد حلا.
- متى ؟
- صبراً ياصديقي
؟
- إلى متى ستظل تأكلني النار المتأججة ؟ .
- أفضل من أن
تصيبني أنا وأنت اللعنة .
- أنت خائفة على
نفسك ؟.
- وخائفة عليك أيضاً ،
فأنا أنت ، وأنت أنا ، نحن نكمل بعضنا .
- بل يكملني نصفي
المشطور ، هو سلوتي ، هو ما أبغيه
- بدوني ستكون
حيوانا ؟
- أكون من أكون
المهم أحقق مبتغاي ، وأحصل على مرادي .
- بهذه الطريقة لن
نتفاهم ، ولن نلتقي في طريق واحد .
(4)
خرجت الفئران من
جحورها فرحة ، وجوهها مستبشرة ، تمشي بخيلاء ، والكائنات الهلامية أذابت جمودها ،
وتحركت تجوب كل الأماكن تنشر رائحتها النتنة ، وهي تتراقص في نشوة .
قال الفأر
لصديقه :
- تخاصما ،
افترقا ، بداية طيبة ، لقد تمرد
الجسد ، وسيقع في الخطيئة ، تحدى هذا السامق ، هيا نأكل في الجسد ، هيا نشبع جوعنا
، لن تستطيع الروح المخاصمة الدفاع عنه .
قال الفار
السامع :
- والشمس ؟
أضاف الجائع :
- لاتخف ، لقد وهنت
وضعفت فما عاد المفتون والمفتونة يمدانها بوقودها .
انتبهت الشمس
إلى حديثهما ، فبصقت عليهما ، فهرولا إلى جحرهما ، وهما يتأوهان من أثر البصقة
الحارقة .
انكمشت الكائنات
الهلامية وتجمدت وهي تهمس داخلها :
- الصبر جميل ،
الفرصة قادمة ، مادام الخلاف قائماً .
قال
المفتون العاشق للمفتونة العاشقة :
- إلى متى نظل
هكذا ، روحنا في ناحية ، وجسدنا في ناحية ، هل يعقل هذا الانقسام .
قالت
السامعة الموجوعة :
- وما العمل
ياحبيبي ، ألديك حل ؟.
قال المفتون جاداً :
- نحطم كل
النواميس ، نترك هذا العالم ، ونرحل معاً إلى عالم جديد ..
- ولكن لمن نترك
زهورنا ، لمن نترك معبدنا ، لمن ....
قاطعها :
- ومافائدة كل هذا ،
ما الفائدة حبيبتي إذا ما لم يحقق
لنا كل هذا لحظة لقاء كاملة .
قالت المفتونة
والموجوعة مثله :
- ألا يكفيك تلك
اللحظات التي نسرقها من الزمن ، لقد وقفت في وجه الجميع ، تحديت كل الكائنات من
أجل لحظتنا المسروقة هذه ، أتمنى أن أقضي عمري كله معك ، لكن الظروف أقوى مني .
تأملها العاشق
وهو يخرج زفرة ، اهتزت لها الريح ، وتألمت لها الشمس ، وأحس بها العشاق فتأوهوا في
صوت واحد ، فقال الجهلاء :
- صوت الرعد في وضح
النار .
قال العاشق :
- ولماذا نسرق اللحظات
، لماذا كتب علينا هذا البعاد ، لماذا تفرقنا النواميس، وتحد من حريتنا التقاليد ،
لماذا لانقف في وجه الجميع ، لقد نجحنا في السيطرة على الكائنات الهلامية ،
وتحدينا الفئران القارضة اللعينة وجعلناها تستكن في جحورها ، ونجحنا أن نصادق
القمر والنجوم والشمس ، كل الكائنات الجميلة من حولنا تبارك حبنا ، فلماذا
لاتساعدنا لنتوِّجه باكتمال ، كيف أنظر إلى جسدك السارقني وأحرم منه ..
قاطعته العاشقة صارخة :
- كفى .
ثم قالت مترجية :
- كفى ياحبيبي ،
لا تزد من أوجاعي ، كلماتك تزيد اشتعال جسدي ، هيا خذني إلى عالمك ، ملعونة كل
النواميس ، معلونة كل الأشياء ، هيا ... هيا
تزيح بعض الدموع التي سقطت عنوة على الأرض ، فأخرجت الأرض من جوفها الموجوع .. نبات الصبار
الذي استطال وغزا شجر الورد والزهور ، وواجه الشمس الحارقة ، وقال :
- منك ياشمس
زادي ، ومن حرارتك اخضراري ، هبيني ياشمس الحياة لأكون للعاشقة بلسماً ، فأنا بذرة
دمعتها ، ونتاج وجعها ، هبيني ياواضحة ياصريحة الحياة لأهبها السلوى ، لأضمد جرج
جسدها الغائر .
قالت الشمس المتابعة :
- وهبتك ياصبار
من زادي ، لتكون سفيري ، بلسماً للعشاق ، تضمد وجعهم ، وتمدهم بالصبر .
انخلع
العاشق وهو يشاهد دموعها المتفجرة :
- دموعك غالية
، ليتني ماعشت حتى هذه اللحظة التي
أرى فيها وجعك ؟
ارتمت العاشقة
في حضن حبيبها ، واستكانت ، وهمست :
- وجعي بداخلي
منذ تلك اللحظة التي سكنت فيها داخلي ، وجعي فرضته علينا النواميس ، ولكن كل هذا
الوجع يتبدد في لحظة وجودك معي ، أنسى كل أوجاعي وهمومي ، ولا أحس إلا بتلك اللحظة
المسروقة من الزمن .
احتواها المسروق
منه ، وهربا من ذاكرة الزمن إلى اللامنتهى ، حيث الشمس الحارسة ، والصبار المدثر
حنانهما ، والورود والزهور التي جلبت القمر الهلال ورسمت بداخله علامة الجمع ،
وهمست الزهور والورود الفواحة :
ـــ من أنفاسكما ياعاشقين ألملم رائحتي التي
أملأ بها الكون ، وأعطر بها قلوب العشاق .
(5)
فشلت كل محاولات الجسد المشطور في مجرد مشاركة
النصف الآخر الحياة ، وظل معلقاً بنصفه المشطور في أوج اللحظة .
النصف الآخر غير
المدرك قال لنصفه المكمل وهو يبتسم نشوانَ :
- فيك يانصفي
الجميل شئ مختلف جديد وجميل ! .
هم النصف
المشطور بالصراخ في وجه هذا الغريب المفروض عليه ليصرح بالحقيقة ، ليقول له إن
نصفي المشطور هو الذي يتقمصك ، هو الذي يأخذني إلى عوالمه، وأنت لحظتها تتلاشى رغم
وجودك ، تتبخر ، لم اشاهدك لحظتها ،
بل أشاهد نصفي المشطور ، هو الذي يحتويني ،وأحتويه ، هو الذي يذوب في وأذوب فيه ،
أما أنت لا وجود لك في حياتي ، هم النصف الموجوع بالبوح ، ولكنه تراجع ، ونظر إلى
النصف المبتسم إبتسامة بلهاء وأومأ برأسه وأشاح بعيدا يلملم نفسه ويتكور بعيداً ،
وقام النصف الآخر يدندن بأغنية جهيرة سعيداً وهو يتراقص من السعادة ، تأوه النصف
المشطور وصرخ بداخله :
- آآآآآآآآه .
قال القمر
:
- سلامتك ياعاشق
.
وقالت الروح :
- موجوعة مثلك ،
أكاد أنشطر مثلك !!.
حملت الريح الآهة
المكتومة وجالت بها ، ونفثت منها على قلوب العشاق وهي تصرخ بوجع :
- شاركوا أميركم
وأميرتكم الوجع .
قالت القلوب
الشاعرة والعارفة :
- ياويلنا من هذا
الوجع الكامن !
قال القمر المتابع :
- مالكم ياعشاق أصبحتم كسالى ، هيا صلوا لأميركم
وأميرتكم ، ابتهلوا للسماء أن يفرج الله الكرب ، ويبعد عنهم الوجع ، وقودي قارب
على النفاذ ، فمن بعدي يكون لكم سلوى ، من يشارككم نجواكم غيري ؟!
قالت الريح الغاضبة :
- فلتأذن لي ياقمر أن
أدمر كل النواميس ، أهدم كل الأعراف ، من أجل صديقي ، من أجل أميري .
بحلق القمر في الريح
الغاضبة ، ثم لملم نفسه ، وأفرد
لابتسامته شراعها ، فغطت كل الأشياء من حولها ، وهمس :
- مهلاً ياريح ،
حنانيك ياريح ، اخلعي عنك غضبك ، فالغضب مدمر ، والموقف يحتاج الحكمة والتريث ،
والصبر .
قال الصبار
السامق :
- هأنذا أرضعهم
إياه .
(6)
- وكأن الأرض
غير الأرض ، والمكان غير المكان ، والزمن غير الزمن ، كل شئ مختلف ومغاير ، هي
صحراء وما بصحراء ، بساتين وما ببساتين ، جبال وما بجبال ، كانت الشمس صافية ،
والقمر بازغ ، والنجوم تتناثر حولي ، والهواء يرسل نسيمه فتتخلل عبر خيوط الشمس
ترطبها ، وتداعب ضوء القمر الخافت فيزداد بهاءً ، كل شئ جميل ورائع ، فجأة وأنا
مسحور ، مخلوع بمنظر سن الجبل الذي تداعبه الشمس فيعكس ألوان الطيف ، ويلقي عليه
القمر بعض الغموض وكأنه لوحة سريالية ، تغضب الريح ، وتعصف بهذا الهدوء ، تصفع
الأشجار بقوة ، فتتساقط أوراقها الجافة .. وتنتشلني من حلمي ، وكأن قلبي انخطف وأنا
أشاهد هذا الكائن الغريب الخارج من غبار الريح ، ويقف في مواجهتي بوقار وهيبة ،
يرتدي جلبابا أبيضَ ، وما إن بحلقت فيه حتى انخلع قلبي مني وهرولت نحوه مهللاً :
- قيس ! .
تبدلت هيئته ..
- كثير ! .
تبدلت هيئته ..
- روميو ! .
تبدلت هيئته ..
- حسن ! .
تبدلت هيئته ..
- ( ......... )
كل هذا التبدل والتغير وهو يبتسم وأنا مندهش ، ثم ربت على كتفي في حنان ،
بعد أن عانقني فأحسست بدفء الأبوة يتوج كياني كله ، وقال :
- أنا كل هؤلاء
.
- وكيف تكون
الكل في واحد ؟!
قلت وأنا
مخلوع مني ، أنظر للذي أمامي بدهشة .
افترشَ
وجهي بإبتسامته ، وقال :
- ولم لا ، ما
الفرق بين كل العشاق ؟ ، كلهم ذاقوا عذابات العشق ، وجع العشق ، كلهم عانوا من
النواميس المفرقة .
قال المفتون
العاشق للمفتونة العاشقة ، والمفتونة
تتابع مايقول وهي تناوشه بإبتسامتها ، ونظرتها الآسرة ، وقالت غير مندهشة فقد
تعودت :
- لقد حدث لي
ماحدث لك بالضبط ياحبيبي ، وشاهدتها .. ليلي ، بل عزة ، بل جوليت ، بل نعيمة
، بل جميعهن . مجرد حلم من بقايا
وجعنا .
- بل رؤيا
، فكأنه الذي رأيت قال لي :
- حطم كل النواميس ،
كسر كل القيود ، لاتفعل مثلنا ؟
أضافت السامعة :
- قالتها التي
شاهدتها ، وصرخت في وجهي : لاتتلذذي
بوجع الحبيب وكأن وجعك يرضي غرورك ، تمردي مثله على كل النواميس .
احتواها الذي
سمع وهمس :
- لاأريد منك أي
مخاطرة بحياتك ، أفضل الفراق على فقدك ؟
امتزجت
الساكنة ، تفتت ، إشتعلت ، ذابت ، وخرجت من بين شفتيها تلك الكلمة :
- حبيبي .
مد السامع يده
وأمسك القمر وقدمه لها :
_ هو
ذا القمر اسكنيه ، ليتألق ، ويكون سلوى العشاق ،والحيارى ، والموجوعين .
ومد يده وناولها
الشمس :
- هي
ذي الشمس هبيها من نورك ، لتملأ
قلبي ضياءً ، وتفرش قلوب العشاق بالنور .
لملمت
أشلاءها الممزقة وهمست :
- أنت قمري وشمسي
ونجومي وأرضي ، لقد سكنت في قلبك ، وتدثرت بروحك ، خذني ياقمري بعيداً عن كل
نواميس الكون ، خذني ياشمسي إلى ضيائك ليهبني النور الذي أبصر به ، خذني إلى أرضك
البكر الطهور لنصنع عالمنا بعيداً عن كل الكائنات ، شدني إلى نجومك المنتشرة في
أفياء كونك الرحب لأكون لك نسمة تداعبك .
(7)
قالت
الموجوعة لنصفها الغريب راجيةً :
- ماكرهتك يوماً
، ولكن منذ أن عثرت على نصفي المشطور ، وأنا أتلظى ، لا أستطيع أن أوفق بينكما ،
لأنه نصفي المتوافق معي ، أما آن الأوان لنفترق قبل أن يدب الكره في قلبينا ، قبل
أن أسقط في المحظور ، لا أريد أن أخونك وأجير على حقك ، ولا أريد أن أفقد نصفي
المشطور فأنا بدونه ضائعة ، هبني حريتي ، هبني حياتي ، أخرجني من نصفك .
مُس الذي سمع ،
وركبته شياطين الأرض ، ولطم الصامدة أمامه على وجهها ، صرخ القمر :
- ياوجعي
.
وأطلقت الريح
صفيرها ، وهاجت وماجت وقالت :
- مرني لأقتلع كل الأشياء من جذورها .
خرجت
الفئران وهي تأكل في الصامدة .
الكائنات
الهلامية أذابت جليدها ، وانبسطت وجوهها راسمة ابتسامات قبيحة، أرعبت ديدان الأرض
.
اهتزت
قلوب العشاق ، وخرجوا من كل صوب
وحدب مبتهلين ، مكبرين .
وقف الشايف مبهوتاً ،
مرجوفاً ، عندما وجد قامة الصامد تعلو ، تعلو حتى وصلت القمر ، ونظر ت إليه بطرفها وهمست :
- إصفع ثانية ،
لن يغير من الموضوع شيئاً ، ماكنت أريد أن أقف في وجهك هكذا ، كنت أود أن تحررني
من عبوديتك في صمت ؟.
نَكَّس رأسه
القزم الذي انكمش .
شاهد القمر إبتسامته فاسترخى واستراح ،
والرياح همدت ، والعشاق هرولوا إلى مخادعهم متلاصقين .
قال المفتون العاشق
المأسور :
- تعودت منك
البدايات ، جرأتك تزيدك فتنة ، آن الأوان لنهجر كل الأوجاع، نحطم كل النواميس .
هطلت دمعة من
عيني المفتونة العاشقة ، شافها
فانخلع :
- ولِمَ الدموع ؟.
همست العاشقة :
- آخر دمعة وجع .
استقبلت الأرضُ
الدمعةَ فأنبتت زهوراً ووروداً وصباراً ، تشكلت حديقة غناء لها سياج منيع ، هبط
القمر الهلال ، فداعبته الزهور ورسمت بداخله علامة الموجب، قال العاشق المتموسق :
- هو معبدنا .
تمددا على
الخضرة فاستراحت الروح ، وتموسق الجسد .
هطل المطر من السماء
غزيراً ، غزيراً ، قاما ورقصا .. رقصا وغابا عن الكون .
أرسلت الرياح من أرسلت
، وأخرجت الأرض ما أخرجت ، إلتف الجميع حولهما ، كل مع نصفه الآخر ، يرقصون : ليلى
وقيس ، جوليت وروميو ، عزة وكثير، بثينة وجميل ، و.......
القمر
الهلال قال لموجبه الورد :
- دثرني
بعطرك ، وادخلني .. انثرني ، بعثرني فيك .
قالت أسراب الحمام الطربة التي تحلق فوقهما كما النجوم ، وهي تتعانق في
ثنائيات :
- هنا دارنا ،
ومبتغانا ، نتدثر بالمحبة ، ونُطعم زهر العشق ، ونرتوي من بحر الهوى .
قالت الأرض
العطشى :
- رويدك يامطر على
عشاقي .
إبتسم المطر النازل
وفرش الأرض بإبتسامة عذبة :
- دعني أزيل
الوجع من القلوب ،الأرواح، الأجساد ، لأعلن عن ميلاد جديد، بعد إبادة الوجع ، هيا
ياأرض ساعديني وابتعلي الوجع وأخنقي جذوره وبذوره ليحيا العشاق في سعادة وصفاء .
(8)
وكأنه حُلم الذي
يحدث ؟ ! مازالا غير مصدقين كل مايدور حولهما ، الأساور الحديدية التي تكبل
معصمهما ، القفص الحديدي الملقيان بداخله ، يشمان رائحة نتنة تزكم أنفيهما ، أخرج
منديلاً بيده المتحررة ، وناولها إياه ، وكأنها عادت لتلك اللحظة الجميلة التي
تموسقا عندما كانت تناوشه وتطلب منه منديلاً ليحدث هذا التماس الجميل بين أناملهما
، فضغط على يدها بحنو ، همس العاشق :
- عزائي الوحيد
أننا مكبلان معا ، مقيدان معا ، هذا يجعلني لا أعبأ بما يدور ؟
همست العاشقة :
- منذ عرفتك ، منذ أن
دخلتني ماعدت أعبأ بأي شئ إلاك .
خرجت أنفاسهما
برائحتها العطرة تملأ القاعة ، بعثرتها الرياح على أنوف كل الكائنات الجالسة ،
تهامست الشفاة :
- ماهذه الرائحة
الجميلة ؟! .
- مانوع هذا
العطر ؟؟ .
- مؤكد
أنه" بارفان "مستورد
وغالي الثمن .
همس أحدهم
للواقف خلفه :
- ابحث عن صاحبه واسأله عن مصدره ؟
توارت
الكائنات الهلامية خجلى بعد أن فشل فحيحها في إمتلاك المكان بعد أن غطت عليه أنفاس
العاشقين
وصرخت الفئران :
- ياوجعنا ماذا
نأكل ، نتضور جوعاً ؟!
طرق.. تنبيه .
الكل أطرق .
دخل أهل المنصة
، وقفت الكائنات ، أشار كبير المنصبة بأصبعه ، جلس الجمع ، نظر إلى القفص الحديدي
، شاهد الجالسين ، المكبلين ، نظر إلى وجهيهما شاهد إبتسامة فرشت القاعة ، وأطلت على وجهه العبوس ، صرخ :
- فكوا القيد ،
وابعدوهما عن بعضهما ، تشابكت الأنامل .
حاولوا نزع اليد من
اليد لم يستطيعوا ، تكاتف الجميع ، انقسموا إلى فريقين ، وجذبوا من الطرفين ، ولكن
الأنامل المتشابكة الصامدة توحدت ، أصبحت يداً واحدة ، بُهت الجمع .
قال أحدهم
:
- ألاعيب
شيطانية ؟
- لاحل الآن ،
أتركوهما حتى ننتهي من مهمتنا .
قال كبيرهم وهو
يرمقهما بغيظ .
وُجِّهت الإتهامات
إليهما :
- مخالفان لكل نواميس
الكون ؟.
- منشقان ، يحرضان على بناء
مملكة جديدة ؟
- فاجران يحرضان على
الفتنة وزعزعة أمن البلاد .
- (
.....................................) .
-
(.....................................) .
- (
..................................
) .
قال الكبير :
- الشهود .
خرجت الفئران من
جحورها مهرولة ، والكائنات الهلامية أذابت جمودها واحتشدت في القاعة وهم يصرخون ،
يزعقون ، يهتفون :
- شاهدناهم .
- نعم خالفوا نواميس
الكون .
- لقد بنوا المملكة بالفعل .
- وأشعلوا
الفتنة في البلاد .
نظر إليهما
الكبير وعلى شفتيه إبتسامة بشعة ، وقال :
- كل هذه الشهود .
قال الجالس بجواره :
- وأكثر منهم خارج
القاعة .
- يرجم الفاجران
في ميدان عام حتى الموت ، لخروجهما عن النظام العام للبلاد ، ومخالفتهما نواميس الكون .
قال الكبير بنشوة زادته قبحاً ،
فتصايحت الكائنات الهلامية وهي تطلق فحيححها العفن ، وانطلقت الفئران ترقص في
سعادة .
(9)
ما إن
تبتلع الشمس نورها ، وتدخل العتمة كل البقع والشقوق ، حتى ينتشر الأنين ، يصل كل
الآذان ، أنين بحرقة ووجع ، يخطف القلوب ،وكل ليلة يخرجون من كل صوب وحدب ، في
الشوارع والطرقات ، وعلى أسطح المنازل ، في الميادين والصحاري ، وفوق سن الجبل ..
الكل ينظر إلى القمر المخنوق ، الذي يطلق أنينه ويبث وجعه ، يترقبون الفرج ، يغنون
له ، راجين من بنات الحور تركه فقد طالت خنقته ، وزاد أنينه .
- مالك ياقمر ؟ .
- ماذا حدث لك
يامخنوق ؟.
- إشك لنا وجعك .
- (
...................) ! .
-
(.....................)؟ .
والقمر صامت ،
يزداد أنينه فتزداد حيرتهم ، وطالت الأيام ، والقمر مازال مخنوقا ،
غنوا له فما استجاب ، إبتهلوا ماعاد كما كان ، يقلق نومهم أنينه الذي يخترق
الجدران والأبواب ، واتسعت علامة التعجب على الوجوه الكالحة المرهقة من سهر
الليالي ، من عتمة الليل الموجعة .
وفي ليلة وجدوا
الأنين توقف ، وكأنه حلم ، خرجوا مهرولين نحو القمر ، من جحورهم ، بيوتهم ، كهوفهم
، ونظروا إلى القمر .
علت
الدهشة العقول ، وانخلعت القلوب ، عندما وجدوا القمر يرسل بعضاً من ضوئه ، يداعب
عيونهم بعد فراق طويل ، وشاهدوه وهو يفرش جسده سريراً من سندس وإستبرق وديباج
وحرير ، والمفتونة العاشقة جالسة بجوار المفتون العاشق ، جالسان ، يلعبان ، يمرحان
، يتناجيان ، يضحكان ، والقمر المبتسم يلفهما بذراعيه / الحنان .
قال الشايف للواقف
بجواره مندهشاً مثله :
- أترى ما أرى ؟!.
رمقه المندهش :
- وهل ما أره تراه ؟!
قال آخر :
- مؤكد هذه تخاريف الظلام !.
قال كائن :
- جُنت الناس من أنين
القمر .
قال غيره :
- الشيطان يزين
لنا أشياء غريبة .
نظر إليهم القمر ،
وسحب شعاعه المرسل ، وأرسل أنينه .
قالوا :
- عاد القمر كما كان ،
بعد أن أخذ عقولنا فهيئ لنا ما هيئ .
(10)
-كم صباح مر والشمس
غائبة ، تحجبها السحب ، والأمطار والأعاصير
؟ .
قال كائن للكائن الآخر
وهو يحاوره .
قال السامع :
- كثير ياصديقي ، حتى
قاربنا أن ننسى حرارتها وشكلها ، كل شئ تغير ، فقد كانت تسطع وتلفحنا بحرارتها حتى
نختبئ منها ومن وهجها .
- واليوم لانرى إلا
السحب القاتمة ، والصقيع القاتل ، والأمطار الكاسحة ، والأعاصير المدمرة .
قال أهل الإختصاص
والعلم :
- إنه ثقب الأوزون ،
وما أحدثه من تغيرات .
أضاف المجاور :
- إنها أفاعيل الإنسان
ضد البيئة .
قالت الشمس :
- بل هو غضب
السماء من القلوب الصدئة ، المتحجرة ، والظلم الطافح كيله.
سمعت القلوب
وكأنها اهتزت وما اهتزت ، وقال بعضها :
- وساوس شيطان .
وكأن الريح الحاسة والمتابعة
أصابها الوجع من تلك القلوب الصدئة المتحجرة، فأطلقت لنفسها العنان ، فانخلعت
الأشجار و تتطايرت الجحارة من فوق سن الجبل تهز القلوب الصدئة ، فيصطدم الحجر
بالحجر وتشتعل النار فتأكل ماحولها .
شموا رائحة دخلت
أنوفهم ، إخترقت كل الحواجز ، تعجبوا .
قال المتأكد :
- هذه ليست
غريبة لقد شممتها يوم كنا نرجم المفتون العاشق ، والمفتونة العاشقة .
أضاف الفأر
الجائع :
- نعم هي رائحتهما .
إنكمش الكائن
الهلامي وهو يقول :
- ومن ينسى هذه
الرائحة .
وعندما أطلت عليهم
الشمس بوهجها ، شافوها ، وقد إنقسمت إلى نصفين ، النصف الأول تشكل وأطلت المفتونة
العاشقة بإبتسامتها التي فرشت الأرض ، فأطلقت الأرض جذورها وترعرت الأشجار ، وخرجت
رائحة الورود والزهور تداعب الريح .
والنصف الثاني تشكل
وأطل المفتون العاشق بنظرته الرائقة ، فداعبته الريح وحملته على أجنحتها حتى اقترب
من المفتونة العاشقة ، تلامسا ، تناجيا .
اقترب القمر الهلال
، تناثرت الزهور والورود في الهواء تحتضن القمر الهلال ، راسمة نجوماً موجبة ، تتعانق ، تتهامس ، انقسم القمر الهلال
وأنقسم وأنقسم وامتلأت السماء بالأقمار والنجوم ، وحولها أسراب الحمام ، والعصافير
والبلابل .
قالوا :
- بلادنا ركبتها
العفاريت والمردة .
(11)
إنطلقت الفئران
الجائعة تأكل الأخضر اليابس ، وزبدت الكائنات الهلامية وأرغت فقتلت برائحتها
العفنة الورود والزهور ، وهربت أسراب الحمام والعصافير ، ولم يُسمع إلا نعيق البوم
، و الأرض الغاضبة إبتعلت الكثير ، ولم يبق من البيوت إلا هياكل ، وبعد أن توارت
الشمس ، وحُجب القمر ، تجمدت
الحياة ، والرياح الغاضبة عصفت بكل
شئ .
وهناك حيث وارت
الأرض جسديهما ، واحتضنت الريح روحيهما .. نبت العشب الأخضر ، الورد ، الزهر ،
تجمعت أسراب الحمام والعصافير والبلابل ، يغنون في حزن ، والزهور والورود تخرج
رائحتها الفواحة ، يشمها الغادي والرائح فيشعر بالوجع ، وينخلع قلبه ، ويعجب من
القمر الهلال ، المحاط بالورود الحاضنة الموجبة ،وسط إمتداد الخراب ، يتعجب من هذا
الدفء الذي يلف هذه البقعة الصغيرة وسط الصقيع ، ويسقط في الحيرة عندما يجد الشمس
تعطي كل خيرها لهذه البقعة فقط .
إنتشرت
الحكاية وتناقلتها الرياح إلى كل
البقاع العامرة ، فتحولت البقعة
الصغيرة إلى مقصد يحج إليه العشاق ، يبثون وجعهم بين يدي الشمس والقمر ، وعلى
قبرهما السامع ، فتنبت الزهور والورود والصبار ، وتزداد البقعة إنتشاراً وتمدداً
بزيادة عدد العشاق الزائرين ، ولم تفلح أية محاولات من الفئران والكائنات الهلامية
في وقف إمتدادها وغزوها للجبال والصحاري والأرض الخربة الفاقدة للحياة .
بل طارد هذا الغزو كل
الفئران والكائنات الهلامية التي ولت هاربة أمام هذا الإجتياح ولم تهنأ
بإستقرار .
والشمس الباسمة تطرح أشعتها ودفئها على كل بقعة يسيطر عليها الجيش الزاحف ، والقمر الهلال كف عن أنينه وإنقسامه ..توحد ، وحوله نجمة واحدة موجب تدخله ، تحضنه .. بعد أن ارتوى من حكايات العشاق .
وكالة
آرس للبحوث والنشر والخدمات العلمية والثقافية ــــــــــــــــــــ القاهرة 2002 |
||||
الموقع
: أخبر به صديقاً |