ابة الدندنة - موقع الشاعر المصري علاء الدين رمضان مجلة أهل الغابة عن المحرر - وكالة آرس |
غابة
الدندنة |
|
|
|||||||||||||||
يا عزيز عيني | علاء الدين رمضان | أحمد فضل شبلول |
مجلة
غابة الدندنة
الرئيسة
إبدالات
المكان وتحولات الرؤية
ورقة
العمل المقدمة إلى المؤثمر الأدبي الثالث
لإقليم وسط وجنوب الصعيد الثقافي 2002
جمالات عبد اللطيف *
خالد
أبو النور *
هند
محمد عبد الرحمن *
محمود
الطهطاوي
إعداد
علاء الدين رمضان
**
المقدمة :
تتنوع
صور المكان واستخداماته لدى كتاب الصعيد ،
نتيجة لعمق علاقتهم بالأمكنة ولخصوصية
بيئاتهم المكانية في الصعيد ، تلك التي تركت
في أدبهم آثاراً جلية ودفعت نتاجاتهم
بمؤثرات ذات سلطة فارقة في تصنيف النصوص
مكانياً ، فجاءت أعمالهم مصطبغة بخصوصية
مكانهم الذي ينتمون إليه وأخص من هؤلاءِ ،
الأجيالَ الأكبر سناً من المبدعين ، تلك
السلطة المكانية التي تجاوزت أهل الصعيد
وفرضت شروطها ووسمت بميسمها كتابات أدباء
ليسوا من أبناء المكان كما هي الحال في
كتابات ( يحيى حقي ) الذي نستطيع أن نصفه بأنه
حبيس تجاربه في الصعيد .
لقد
تفاعل كتاب الصعيد مع الأمكنة تفاعلاً
منتجاً تمخض عن عدد من الكتابات الموجهة ذات
الفنية العالية في نتاج النص ومدلولاته من
خلال مرآة الحيز المكاني الذي ارتبطت حياتهم
به ، وقد ترك المكانُ في أعمالهم الأدبية
سماته من خلال مؤثرات عميقة كان لها دورها
المقدر في بناء الكاتب والمكتوب .
وسوف
تتناول هذه الدراسةُ المكانَ من خلال
النماذج القصصية التي عمدتُ في جمعها إلى
استخدام منهج أرجو أن يكون تبريره واضحاً
لديكم هو المنهج الانتقائي : لدراسة القصة
الفنية ذات الطابع غير التقليدي ، أو بمعنى
أدق القصة بعد شيوع النظرية الجمالية
وتطبيقاتها ووعي الكتاب بها ، ثم ملاحظتهم
لأهمية المكان واختلاف رؤيتهم لأدواره التي
يمكن أن يُسهم بها في تعميق طروحات النص
الأدبي ؛ نستطيع إذن أن نرده إلى عشرين سنة
ماضية بدءاً من نشر كتاب غاستون باشلار (
جمالية المكان ) للمرة الأولى مترجماً إلى
العربية عام 1980م(1) ، لذلك أُقَسِّمُ
نماذج الدراسة في داخل هذا النسيج الزمني ؛
ثم أنتقي من كل عقد كاتباً وكاتبة لديهما
القدرة على الدلالة الكاملة والإنابة عن
جيلهما ؛ فالكُتَّاب الشباب حتى الثلاثين من
العمر تمثلهم الأديبة هند محمد عبد الرحمن
والأديب خالد أبو النور ؛ وحتى الأربعين
تمثلهم الأديبة جمالات عبد اللطيف و الأديب
محمود رمضان محمد الطهطاوي .
وأُشير
منذ البدء إلى أن أهم ما يَمِيزُ تلك النماذج
التي تخيرتها الدراسة أن كُتابها لم يكن
المكان عندهم بمعزل عن بقية العناصر الأخرى
؛ بل جعلوه مرتبطا دائما ببقية العناصر
المشكلة لنصوصهم ، لا سيما الشخصيات والزمان
فاكتسب المكان أهميته من خلال حركة الشخصيات
فيه ، أو حركته التي يمارسها على الأشخاص ،
أما الزمان فهو عند الكاتب محمود الطهطاوي
شديد الارتباط بالمكان ، حتى أنه يكاد يكون
ملازما له في معظم الأحيان ؛ وقد استغل أدباء
الدراسة الرمز في أعمالهم فأحسنوا توظيفه في
التعبير عما يريدون من وقائع رمزية ورؤيوية
غير مصرح بها على السطح النصي ، فقد جعل
الكاتب ( خالد أبو النور ) من المكان الرمزي
أداة للتعبير عن مشكلات إنسان البيئة الخاصة
في مواجهة جمود بيئته وعدم قبولها للتفتح
المعرفي ونبذ الخرافات ، بينما الأمر يأخذ
عند الكاتبة ( جمالات عبد اللطيف ) بُعداً
سياسياً واجتماعياً مما يجعل أعمالها إلى
جانب أعمال ( خالد أبو النور ) تستعصي على
القراءة العادية فهي تحتاج إلى قراءة متعمقة
لسبر رموزها وكشف خباياها .
**
المكانان القياسي والجمالي :
المكان
جزء رئيس من مكونات الوعي البيئي لدى الكاتب
، بل إنه يتحول في بعض الأعمال الأدبية إلى
بديل مقصود عن البيئة بأسرها ، وللأماكن
أدوار متباينة تؤديها في الأعمال الأدبية ،
يصل بعضها إلى مرحلة البطولة المطلقة
وتَسَيُّد مسيرة الأحداث في العمل الأدبي(2)
؛ والمكان في السياق الأدبي له بُعْدُهُ
الجمالي الذي لا يُقصد به الهيكل الموضعي أو
الوصف الشكلي الخارجي للمكان ؛ فالمكان
الموضعي لا يعني الأدباء في شيء إلا إذا كانت
كتاباتهم مقالية راصدة ، وهي بالتبعية ليست
من الفن في شيء ، أما المكان الأدبي داخل
العمل فهو إسقاطاته ودوره وسلطته المشاركة
في توجيه الأحداث والشخصيات ، وأثر المكان
الموضعي في العناصر البيئية التي تعيش عليه .
يقول غاستون باشلار : " لو أننا طولبنا
بتعداد الأبواب التي أغلقناها والتي
فتحناها ، وتلك التي نود أن نعيد فتحها ،
فإنه يتوجب علينا أن نسرد قصة حياتنا
بكاملها"(3)؛فذاكرة المكان هي ذاكرة
الإنسان ؛ إذ يستطيع كل ابن مدينة أو قرية،أن
يمشي في شوارع مدينته أو قريته ، ويتذكر ما
كان ، وبالتأكيد سيحصد أشياء جميلة وشجية
ليست سوى ذكريات المكان الذي يُعد الحافظ
لها والمحفز على تذكرها ؛ لكنها أبداً ستظل
محصورة في دائرة الذكرى
ما
لم يعيد نتاجها قلم واعٍ لديه القدرة على
إعادة تقليب التربة وتفصيل خصائصها وفصل كل
شبيه إلى شبيهه،وكل مخالف عن مخالفه.
يرى
ميخائيل باختين أن جوهر الرؤية الدرامية
يكمن في رؤية الشخصية داخل المكان ، ويشير
إلى أن ديستوفيسكي رأى تناقضات زمانه
متجاورة في المكان لا في الزمان ؛ من هنا
نبعت رؤية خالد أبو النور للمكان الذي يحمل
جمهرة من التناقضات التي يرى أن عليه بوصفه
كاتباً أن يُنَاوِئَها ويُقْصِيها من
مشهدية بيئته قدر استطاعته ؛ فما كان في
إمكانه إلا أن يصورها في أعماله على نحو يثير
الحفيظة ضدها ويدعو إلى نبذها ، فالغفلة
والتخلف يخيمان على قريته ( المكان وأهله ) ،
وفي معظم كتاباته ، تتجلى الغفلة جاثمة على
مشهدية القرية ، فالكاتب يعري الزيف ويكشف
الواقع من خلال رأب القرائن المنفصلة ووضع
الصور المكانية بعضها في مقابل بعض حتى
ينجلي الأمر وتتجلى التناقضات ، فينير
المعنى ؛ إذ أن هناك دائماً ما هو أخطر من
العرض الحكائي والرصد الخارجي للتفاصيل
اليومية في حياة المكان عند هذا الكاتب ؛
هناك الإنسان الذي كان موجوداً يوم كان
الأمل في الخلاص موجوداً ؛ لذلك نجد أن وصف
المكان عند خالد أبو النور يخضع لعملية
الاختزال الانتقائي الدال بسبب ما يُعْنَى
به الكاتب من توجيه الفنيات اللغوية داخل
العمل واستخدامات الألفاظ ، ودلالاتها ، كما
يعتني كذلك بفاعلية الرمز المكاني وتحولاته
؛ فبين ( المغيب ) ، و ( طبل الشيخ رشوان ) ، و (
في ذكرى سيدي المغني ) أكثر من وشيجة فكرية
وفنية فكلها تسري في عروقها لغة واحدة تجسد
نفرة الكاتب من الواقع الذي عايشه ويعايشه
ورفضه للقرية التي هجرها المُخَلِّصُ
يائساً ؛ وتظهر في النصوص المتاحة من كتابات
الأديب ”خالد أبو النور“ أنها تجارب تنطلق
من نبع واحد يدعم بعضها بعضاً ويتطور بعضها
عن بعض ويعمق بعضها بعضاً وتؤكد كل تلك
النصوص على ما يعتور حياة الريف من انفصامٍ
وبُعْدٍ مروِّع عن القيم الأهم وإن بدا في
ظاهره الحارس الأمين لها .
فـ
( طبل الشيخ رشوان ) مكان احتفالي لايسميه أهل
القرية مولداً أو محفلاً ، وإنما يسمونه (
طبلاً ) لالتصاقه بمهمته الأساسية ، وهي ( قرع
الطبول ) ،( والطبل عندنا في قرى الصعيد اسم
مكان يطلق على الموقع الذي تقرع فيه الدفوف ،
وهو على سبيل المجاز الدلالي ) ؛ ويسبغ
الكاتب على المكان عدداً من الصفات التي
تُلصق به الغفلة والضلال والجدب ، فهو ساحة :
للدلالة على الفراغ ، ورمل : للدلالة على
الجدب .. وغيرها من دلالات ، ويكشف الكاتب عن
الهدف الرئيس من وراء تلك الاحتفالية ، وهو
” ترقيص فرس العمدة “ ، لكن الأحداث تفرض
نتيجةً أخرى تشارك الهدف ساحة الطبل ، هذه
النتيجة هي إضحاك عم عوض خادم الكبار والعبد
الموروث ، وكأنه شريك كامل في الدلالة ،
والكاشف لحقيقة الطبل ؛ فعم عوض اللاعب
الماهر الذي يجيد اللعب بالعصا ( حريف ) من
يومه ، إلا أنه عندما يبارز من يملك العليق
آخر الموسم يتصنع أمامه الاندحار والهزيمة
لأنه يوقن أن ” الشيخ رشوان وطبله لن يملآ
بطنه ولو أوقع عمامة العمدة نفسه “ والكاتب
يشير في غير خفاء إلى أن كل أهل القرية عميان
، وأن الشخصية الوحيدة المبصرة هي ( عوض ) ،
ويظهر في الساحة أن الجميع عندما يأتونها
يرقصون في غفلة كالعميان معصوبي الأعين
تمتزج في الساحة رائحة المعسل والشاي والقصب
برائحة الناس والبهائم والضعة ، لذلك شعر
الراوي الطفل للمرة الأولى برائحة مخالفة
عندما حمله خاله فوق كتفيه ليرى ابن ( جناب
العمدة ) وهو يرقص مع أبيه ، يقول الراوي : ”
تشم أنفي لأول مرة رائحة غير رائحة البشر
والبهائم “ وسرعان ما نكتشف أنها ليست سوى
رائحة الكبرياء فهو أعلى من الناس في الطبل
فليس سواه هو والعمدة وابن العمدة من يرتفع
فوق رقاب الناس وهو يشعر سلفاً بتفوقه وبما
يملك من مسوغ للسيادة والكبرياء ، فهو يرتدي
بيجامة مخططة أحضرتها له جدته من بيت
المأمور ، فيزدهي بارتدائها في المناسبات
الحافلة ، ويشعر بأنه يشارك ابن المأمور
ملابسه .
ويوضح
الكاتب أنه ليس كل أهل القرية من رواد ساحة
الطبل ، يَغُطُّون في ظلمات العمى وغفلة
الضلال ، إذ يشير الكاتب إلى أن هناك من بقي
خارج ساحة الشيخ رشوان ، فهو في نجوة من
الجدب والغفلة والضلال كالجد الذي جلس
متكئاً على جدار ( الجامع المهجور ) ، ودلالة
الهِجْرَان هنا دلالة عكسية فطالما أن
الساحة عامرةٌ فالجامع مهجور ، والجامع رمز
للقيمة والهدى والأصالة .. وكل هاته المعاني
المفقودة التي يؤكد الكاتب غيابها أو غياب
الناس عنها في مفارقة بنائية جيدة عندما
يقول : ” تضجعني أمي أمامها .. وتتجه حواسي
ناحية السامر والطبلة الكبيرة .. وعندما يزعق
المؤذن ( الصلاة خير من النوم ) تنام كل
الأشياء ما عدا الديك .. عندها أدفن رأسي في
صدر أمي .. أنام منتظراً عودة الشيخ رشوان
وكأنه يؤكد على تلك الحياة السلبية التي
تعيشها القرية ، مع إشارته إلى بقاء قيمة
الخصوبة / الأمل بالقرية ممثلة في الديك وهي
القيمة الوحيدة الباقية فيها كما يرى الكاتب
.
أما
عند السيدة جمالات عبد اللطيف فإن المكان في
كتاباتها لا يسلم نفسه بسهولة ؛ فقد يتراءى
للقارئ أن المكان هو بيتها ، وهذا صحيح
للوهلة الأولى ؛ لكن التمعـن في تلك المآسي
يكشف لنا عن خبء كثير ، فالمكان ليس سوى
الوطن الكبير والسيدة المحتجزة في بيتها أو
التي ترسف في قيود تقاليدها ليست سوى فلسطين
( في : الركض فوق هضاب الشمس ) ، والكرامة
العربية ( في القصة الطويلة : يا عزيز عيني ..
إلى مسعود أبو حجازي )(4) ، والأمة
العربية الغافلة بعد حرب الخليج ( في القصة
القصيرة : يا .. عزيز عيني .. إلى محفوظ عبد
الباري )(5)؛ فالشخصية التي تسرد الحدث
على وجداننا ليست سوى الوجدان العام للأمة
العربية ، وهي بالضرورة ذات صبغة وسمة
مكانيتين ، فهي المكان ، وليس في ذاكرتها إلا
التاريخ ، وحين تتذكر الشخصية الرئيسة /
البطلة / المكان / بعضاً مما جرى ، إنما تسرد
علينا الأحداث الاجتماعية غير المدونة ، بل
على نحو أدق أثر تلك الأحداث في الوجدان
العربي تمهيداً لطيه في مخزن الاحتمال
العربي الفسيح ؛ ففي قصة ( الركض فوق هضاب
الشمس ) نلتقي مع قدرة الكاتبة المتمرسة على
صياغة تكثيف درامي للمفارقة ، فالمكان هو
الذي أصبح يسكن صاحبته وليست صاحبته هي التي
تسكنه ؛ فالقصة ترصد مجرى الحياة للكائن
المفرد المعزول وتحولها من حياة أولية
مكرورة ، إلى حياة رامزة مركبة تحمل عدداً
كبيراً من الدلالات وحشداً من الإسقاطات
وتحفز في طريقها طائفة من التجارب ذات البعد
المكاني ، فقد جعلتها الكاتبة حياة مليئة
بالحس التراجيدي العام ، وبالموقف السياسي
المشبع بالوطنية والإنسانية معاً ، في حين
احتفظ النص بالبعدين التاريخي العربي ،
والقروي الخاص جداً ببيئة الكاتبة الأم في
قرى الصعيد ؛ فهي قصة عن فلسطين وعن العرب ،
عن الكائن المفرد في عزلته ، وعن الكيان
الاجتماعي الريفي وشروره وما يقع في طريقه
من ضحايا حتى في أشد حالاتهم سلاماً ؛ وفي
غمار هذه المآسي المتدافعة المربكة تمكنت
الكاتبة من حسم موقفها الإنساني نهائيا وذلك
بالانتقال من السلبية إلى محاولة تغيير
الواقع المفروض ودفع ما يحيق بها من ظلم
وقسوة واضطهاد ؛ وهو الموقف نفسه الذي عاشته
البطلة واستدعى موقفاً مماثلاً لم يحدث من
فرد بل اضطلع به
هذه المرة مجتمع بأسره هو ثورة الحجارة
الفلسطينية ، وتلتقي كذلك مع هذه الثورة في
الهدف والفعل والآلة ، هدفها الخلاص من
الظلم وقسوة الحصار في المكان ، وفعلها هو
الخروج من الرضوخ والسلبية وانتظار ( الفرج )
المتمثل في العون الخارجي في حالة فلسطين
إلى التصدي للاضطلاع بفعل إيجابي هو استخدام
الحجر الذي هو في الوقت نفسه الآلة التي
واجهت بها البطلة زوجها المتسلط المغرور
الذي يملك البندقية التي تخيفها ويصوبها إلى
صدرها باستمرارٍ كي ترضخ ، وقد تركت الكاتبة
لنا قوة الأمل والإصرار على الإتيان بفعل
وكأن هذا هو الهدف نفسه ، لا عملية إحداث
الحرية، وهو على الأصح مدخل الحلم الأشمل:”أخذ
يقهقه ساخراً من الحجر ومني،على
أني
كنت
أعرف بأني سأقتله بهذا الحجر، ذلك لأني
أقسمت أن أفعل“.
وفي
قصتها الطويلة ( يا عزيز عيني ) يتداخل الماضي
في الحاضر ، وتشتبك المشاعر مع التاريخي في
عملية معقدة أساسها البحث عن المكان في ضوء
ما جر عليه الزمان ؛ فذكريات الحب التي
ابتدأت في الحي، والتعلق بالحبيب القريب
الذي يمنح استعادة صورة المنـزل الأول
القديم بعداً إيحائياً وانفعالياً إضافياً
، وعلى الرغم من اقتراب منـزلي الحبيبين
وتجاورهما، فقد تقطعت حبال الحب دون تحقيق
وصالهما، وهذا ما ولد في أعمال الكاتبة صورة
"القريب / البعيد = الغائب / الحاضر "
التي ترددت كثيراً في مواضع مختلفة من
أعمالها لدرجة أصبحت معها تيمة مميزة لأدب
الكاتبة ، وهي تيمة مبررة بقوة في أدبها إذ
تتخذ منها رمزاً للمواطن العربي الفاعل الذي
تنتظره الأمة العربية ، وإن كان ذلك دون جدوى
إلى الآن ، سواءً في الواقع ، أم في أدب
السيدة جمالات عبد اللطيف ؛ وأشير إلى أن
تلويح الكاتبة بالأدوار القديمة للإنسان
العربي ، تلك التي تعوزنا الحاجة إليها في
حقبتنا الراهنة لا يجعلنا بالضرورة أمام
حالة استرجاع flashback
،
مما هو معروف في فنيات البناء ؛ وذلك لسبب
يسير ، هو أن الكاتبة لا تعيد ترتيب فصول
تجربة وقعت ، وإنما تعيد نتاج وقائع حقيقية
في الروح مضافاً إليها ما جرى ويجري للشاهدة
على هذه الوقائع .
**
استدعاء الطفولة :
دور
الطفولة وخصوصية مثل هذه المرحلة في التكوين
النفسي للإنسان بعامة وللأديب بخاصة من
الأدوار المهمة في البحث عن المكان عند
الأدباء الذين يملكون تأثيراً ملحاً في
مخزونهم الوجداني من تلك المرحلة ؛ فالأمكنة
الأولى التي درجت فيها خطاهم تُرسم في خزين
الذاكرة محملة بالدلالات الراسخة لحركة
الزمان وأفعاله ، وأدب كتاب الصعيد يبدى
احتفاء مناسباً بالتعبير عن الأمكنة
المرتبطة بالبيئة الأم التي هي الصعيد
بالضرورة ومرحلة نشأة كتابنا فيها ، وهذا
الاحتفاء ينسجم مع عمل البنية النفسية
للأديب في استعادته لمكونات طفولته ونشأته
الأولى ، حتى وإن خرج من تحت ظُلَّة تلك
البيئة ليستظل بعراء بيئات أخرى إلا أنه
سيظل خاضعاً للبيئة ذات السطوة التي فيها
القوة واللين ، القسوة والرفق والخصوصية
البالغة : الصعيد .
وقد
قدم الناقد الفرنسي غاستون باشلار في كتابه
"جماليات المكان" بحثاً قيماً عن مثل
هذه الاستعادة في الإبداع الأدبي ، يقول
الأديب غالب هلسا مترجم الكتاب في تقديمه له
: " البيت القديم ، بيت الطفولة ، هو مكان
الألفة ، ومركز تكييف الخيال . وعندما نبتعد
عنه نظل دائماً نستعيد ذكراه "؛ أو بحسب
تعبير باشلار نفسه : ” البيت الذي ولدنا فيه
بيت مأهول بقيم الألفة الموزعة في أرجائه ،
وليس من السهل إقامة توازن بينها إذ هي تخضع
للجدل .. فالبيت الذي ولدنا فيه محفور بشكل
مادي في داخلنا ؛ إنه يصبح مجموعة من العادات
العضوية ؛ فالبيت الذي ولدنا فيه مشحون بقيم
الحلم التي تبقى بعد زوال البيت . تتجمع فيه
مراكز الوحدة والضجر والأحلام ، وهو أكثر
ديمومة من ذكرياتنا المشتتة عن البيت الذي
ولدنا فيه(6) .
وقد
كان لاستدعاء الطفولة عند الأديب خالد أبو
النور قيمة مميزة ، وبخاصة في قصته ( بنت من
طين ) التي هي قصة مكانية بالدرجة الأولى ، بل
مكرسة لإبراز دور المكان الأصيل في مقابل
المكان الهجين ، وعالم القرية في مقابل
البندر ، الصراع بينهما؛ وذلك بوساطة ( عشة
إدريس ) التي تقبع وراء الطاحونة في القرية
المنفتحة التي نشا فيها جيل هجين أمه بندرية
تشد أبناءها نحو البندر وقيمه الهشة وعاداته
المفتوحة التي لا تقرها القرية ، عشة إدريس
هي في لجة هذه التيارات ليست سوى مكان إبدالي
يوفر المعادل النفسي لطفل قروي قح ، محروم من
أمه التي توفيت عنه ، وطفلة أمها بندرية
تنْفُسُ في تربيتها عن جانب من ضيقها
وتذمرها من حياة القرية وعادات أهلها ؛
فسمراء - ابنة البندرية – لها دائماً ثوب
نظيف يلمع مثل شعرها الطويل ، وقد اختار
الكاتب هنا موضعاً مميزاً للمكان ذا دلالة
مساهمة في بنية القصة : فالعشة – أولاً - مكان
يتميز بوفرة الطين والماء الضحل الذي
يساعدهم في أداء لعبتهم الأثيرة التي تتمثل
في صنع عائلة من الطين وإدارة الحوارات
والأحداث حولها ، وهي بهذه الأوصاف تمثل
المعادل الرمزي لفطرية القرية ؛ ثم إن تلك
العشة تقع وراء الطاحونة التي تقوم معادلاً
للحياة في الخارج = خارج عشة إدريس ؛ وقد جعل
الكاتب من العشة مكاناً ذا دلالة نفسية
واجتماعية ، فيه مفهوم الخزانة(7) ، فهو
أشبه بالنفس الإنسانية التي تحمل كل صروف
الحالات الخاصة لصاحبها ، ويؤكد على ذلك أن
الراوي / الطفل : نقل أبناءه من سمراء (
الطينيين ) إلى صندوقه عند سفر سمراء مع أمها
وأبيها إلى البندر ، وقد حول الكاتب المكان
إلى مقياس يختبر به الإنسان ومشاعره، فعند
عودة سمراء إلى القرية بعد سنوات انتظرها في
العشة فلم تحضر ، ولما ذهب إلى منـزلها وجدها
بنتاً يافعاً كبر صدرها ترتدي بنطلوناً
ضيقاً ؛ فأدرك أن سمراء لم تعد ، فلما ذهب إلى
صندوقه وجدها كما هي لا يزال لونها طيناً
وثديها كحبة الليمون صغيراً ، مؤكداً بذلك
على أن هذا العالم باقٍ بشروطه التي تنفي
الخارجين عليها وأن من ترك ( عشة إدريس ) دخل
إلى طاحونة الحياة ، ففقد عناصره الطينية
التي تشير إلى الفطرة والصفاء .
فالقصة
تؤكد على مفهوم الفطرة وأن الفطرة مرتبطة
بالمكان ( عشة إدريس ) مَنْ هجره هجرته ؛
فسمراء عندما عادت من البندر عادت بشروط
سلوكية غير التي ذهبت بها ترتدي بنطلوناً
ضيقاً وتضحك بصوت عالٍ ، الأمر الذي دفع
بالبطل إلى التنكر لها قائلاً لجدته : ” دي
مش سمرة “ ، واستبدل بها وهماً يجعل لتجربته
الفطرية أمداً موصولاً .. ويتمثل ذلك الوهم
في سمرة التي بناها بيده وصنعها على عينه من
تراب عشة إدريس وبللها بمائها الضحل ويبس
طينتها في عراء فضائها وبوساطة شمسها
المتوهجة ، فهذه هي سمراء التي عرفها .
فمراحل
التدرج الفكرى في هذه القصة تبدأ من حالة
الهروب من الإحباطات اليومية التي تواجه
طفلاً وطفلة دفعتهما إلى اختلاق بيئة مكانية
بديلة من وراء الطاحونة التي تمثل الحياة ،
هذه البيئة المكانية تتمثل في عشة إدريس ،
أما المرحلة الثانية فترصد حالة الانفصال
بين البنت والولد ، بسبب سفر البنت مع
والديها إلى البندر في إشارة إلى تمكن
البندرية من السيطرة على الأب بتحويله
مكانياً من أمام الطاحونة ( القرية الهجين )
إلى البندر ( قلب الطاحونة ) والسيطرة على
البنت التي كانت دائماً ترغب أمها في جعلها
لامعة : ثوباً وشعراً ومظهراً ؛ والمرحلة
الثالثة تتمثل في الهرب من ( عشة إدريس ) إلى
مكان آخر أكثر أمناً هو صندوق الولد ، ولم
يصرح الكاتب ما إذا كان هذا الصندوق هو صندوق
اللعب أم غير ذلك ، ربما ليشاكل بهذه المفردة
المفهوم النفسي للخزانة ، وهو ما يعني النفس
الإنسانية ، ثم تأتي المرحلة الرابعة وهي
حالة الاستلاب التي واجهها الولد عندما
انتظر رفيقة مكانه سمراء في عشة إدريس ، ولم
تأته ، فتعجلها وذهب إليها فوجد بنتاً
بندرية شكلاً وسلوكاً ؛ وقد أسلمته حالته
النفسية في تلك المرحلة إلى حالة أخرى هي
حالة رد الفعل الاستعادي في مواجهة الاستلاب
فقد عاد إلى سمراء التي صنعها من الطين
ليجدها لما تزل كما هي منذ عرف أحدهما الآخر .
لقد
اختلطت في نفسه المأساة الفردية ( ممثلة في
فقد سمراء ) بالمأساة الاجتماعية ( نجاح
البندرية في تحقيق التحول السلوكي لدى
ابنتها ابنة القرية ) ، الأمر الذي دفع البطل
إلى صنع معادل نفسي بالتحول من محبوبته
المتغيرة ذات الجسد الفائر والضحكة العالية
والبنطلون الضيق والمظاهر السلوكية التي
تركها الكاتب مشرعة للتصور ؛ إلى جسد من طين
يحفظ للكاتب كل مظاهر الفطرية التي كانت
تعيش فيها القرية والتي خشي عليها من
الذوبان في الماء أو الخروج إلى عراء
الطاحونة ( الحياة خارج المكان / عشة إدريس )
هرب بها إلى صندوقه ، والصندوق معادل خارجي
للنفس ، وكأنه هرب إلى داخله كما سبق لهما أن
هربا معاً من واقعهما إلى عشة إدريس ، فعشة
إدريس كانت المكان الأشد اتساعاً من النفس
المنفردة واستطاعت أن تجمع بين أحضانها
السليبين : البطل الذي فقد أمه ، وسمراء التي
تُوقع عليها أمها البندرية أنماطاً من
التربية تُلزِمُها بأن يظل ثوبها وشعرها
لامعين .. ؛ وهو أسلوب لا يتناسب مع مجتمع
الطين .
ويلاحظ
القارئ منذ الوهلة الأولى أن قصة ( دكة
المقدس يوسف ) للأديب محمود الطهطاوي : قصة
يتسيد فيها المكان ، الذي هو البطل الأول
والشخصية الرئيسة في مشهدية القصة
الموغلة في تاريخ المكان ، والمجسدة
لقيمته ، المبرزة لنمطه ، المشيدة بما اضطلع
به من دور في صيانة الوحدة الوطنية وتربية
أبناء شارع المصري عليها ، من خلال ما تعرضه
القصة من استدعاءات وجدانية لمرحلة طفولة
الكاتب .
وقد
نبعت أهمية تلك ( الدكة ) من الإخلاص الذي كان
يتسم به أهل شارع المصري وتفانيهم في الصدق
مع أنفسهم وأثرتهم بعضهم لبعض ، وحرصهم على
استمرار القيمة ودحر الشر ، لقد كان المقدس
يوسف ينهر أحمد ابن الشهيد الحاج عثمان ،
جاره وصديقه وزميله في حرب الصهاينة ، ويقول
له :” والدك كان يصلي الصلاة في وقتها ولا
تفوته جماعة أبداً .. “ ثم يربت على كتفه
ويحتضنه قائلاً :” يا بني نحن لا نملك إلا
إيماننا بالله ، هو رصيدنا الباقي ..“.
وإذا
كانت الملاحظاتُ أموراً يسيرة الإدراك فإن
الاكتشافات بحاجة إلى تعمق نظر وحساسية وعي
، لكن المتلقي لتلك القصة سيكتشف دون عناء أن
المكان الذي يتسيد المظهر الأدائي للنص
القصصي ليس هو مكان دكة المقدس يوسف ، وإنما
المكان هنا هو الدكة نفسها ، تلك التي لا
تفارق مكانها تحت كرمة العنب أمام باب منـزل
المقدس يوسف الكائن في نهاية شارع المصري ،
تلك التي تعَوَّد الأولاد اللعب بالقرب منها
، ومن حولها يتحلق الرجال جالسون يتسامرون ،
ويتعاتبون ويحلون مشاكلهم ، فهذه الدكة
بمثابة حصن الأمان الذي يمنع تفاقم الخصومات
وفي ظله يأمن الأطفال فيلعبون مرحين ،
فالدكة هنا ذات دور اجتماعي ونفسي مهيمن
ومهم ؛ وقد شاكل الكاتب بهذا المفهوم رؤيته
حول الفعل والاجترار وحاول أن يستغل هذه
الفكرة لتقديم صورة لواقعنا المعاصر
ومحاولة المقارنة القيمية بين الماضي
والحاضر ، فأيام الدكة كانت كلها سمر ومرح
ونصر ( في أكتوبر 1973م ) حتى عندما فقد البطل
والده في الحرب وجد في المقدس يوسف البديل عن
ذلك الوالد الحنون ، في ظل مجتمع يسوده
الإخاء والتلاقي الإنساني في شارع المصري ،
ومع تغير الزمن وتطور الأوضاع الحضارية رفع
المقدس يوسف الدكة ووضعها في المخزن ، كما
رفعنا مع الانفتاح دكك القيم والعادات
والتقاليد والإخاء والتلاقي الاجتماعي
والأثرة ، ووضعناها في جانب قصي من مخازننا
كما نضع الأشياء البالية ، وبرفع الدكة
ينتهي زمن الفعل ليبدأ زمن الاجترار ، يقول
الكاتب : ” كثيراً ما كنت أقف تحت الكرمة ..
مكان الدكة .. فتتداعى الذكريات “ ؛ فالكاتب
أراد برفـع الدكة الإشارة إلى التبدل الشامل
الذي لم تعبث قسوته بالشخصيات فقط وإنما
بالمكان أيضاً ، فقد حدث التبدل المكاني ،
فالمكان الذي كان هو البؤرة الفاعلة في شارع
المصري ( الدكة ) التي يجتمع الناس في سمر
حولها ؛ تحول إلى الأرض مكان الدكة ، وكأن
الكاتب يريد أن يماثل بين المكان المأهول
والمكان الخرب ؛ يقول الكاتب على لسان
المقدس يوسف : ” زمن الدكة بالنسبة لي راح
وانتهى .. أخد كل شيء وراح .. ومش باقي لي غير
الذكريات “ ، وقد وضع الكاتب البدائل
الكثيرة للدكة في المجتمع الجديد بلا جدوى ،
فالشوارع متسعة لكن الأولاد لا يلعبون في
الشوارع مثل أولاد الدكة ، لأنهم حبيسوا
الشقق المغلقة ، ثم يعدد الكاتب الألعاب
التي كانوا يلعبونها فنتأملها فإذا بها
مراحل التحول الاجتماعي من عصر النصر إلى
عصر الضياع : فالأولاد كانوا يلعبون عسكر
وحرامية ، وفي هذه اللعبة لابد وأن ينتصر
العسكر كما انتصرنا في حربنا ضد المغتصب
السارق للأرض والكرامة العربية ؛ ثم لعبة
سباق حصان البوص ، وحصان البوص هش يمكن كسره
بيسر شديد في إشارة للتحولات الاقتصادية
والسياسية التي شهدتها مصر في عصر الرئيس
السادات ، ثم لعبة أوِّل حول ، وهي لعبة تتم
فيها إبدالات كثيرة بين الأشياء والأشخاص
والأماكن ، ثم ينهي باللعبة الأخيرة لعبة
الأستغماية التي لابد وأن يغمض اللاعب
الرئيس عينيه حتى يمر اللاعبون إلى مخابئهم
ثم يفتح عينيه وكل منهم يتربص لاقتناص (
الريد / أي الهدف المكاني المحدد سلفاً في
اللعبة ) ، وكأن اللاعبين نسخة من أولئك
اللذين يصدق فيهم قول العامة : ( حرامية شغل
حكومة .. تسرحهم وقال
إيه .. عاوزة تلمهم ) .
لكن
الكاتب في لحظة جمالية رأى أن يجعل كل شيء
جميلاً، وأن يزيح ما على الدكة من التراب
ويعيدها إلى مكانها تحت كرمة العنب ليجلس
عليها كل مساء، ومِنْ حوله الأولاد يلعبون ،
لكنه لم يذكر شيئاً عن مدى تساوق هذا الوضع
مع السمات الانعزالية للمجتمع الجديد ، الذي
يمقت الجلوس في الشارع..في شارع المصري.
**
المكان المفتوح والمكان المغلق :
المقابلة
بين المكان المفتوح والمكان المغلق هي
التيمة التي تطفر في كتابات أهل الصعيد
بخاصة عندما يتماس عالمهم مع عالم القاهرة
المفتوح المزدحم الذي يمثل لأهل الصعيد في
بعض الأعمال حالة للمجتمع المغلق في مقابل
مجتمعه الرئيس في الصعيد الذي يمثل المجتمع
المكاني المفتوح المتسع الأرجاء الذي يملك
السكينة والهدوء ، ويجسد محمود الطهطاوي هذا
المفهوم في قصته ( الوسادة ) التي تحكي عن
انتقال الكاتب إلى القاهرة في مهمة طارئة -
غير دائمة - شعر خلالها بعدم الراحة في
الفندق بسبب الوسادة المنتفخة ( على الفاضي )
وهو الذي لا يستريح إلا إذا وضع رأسه على
وسادة عالية ، ثم يطور هذا الحدث درامياً
ليجعل منه سبباً في الشعور بالاغتراب
والحنين إلى وسادته التي يجد فيها الراحة
ويحس معها بالشموخ ، ثم لا يجد منقذاً له إلا
برج القاهرة الذي يرفع رأسه في السماء بشموخ
، وكأنه يشير إلى تماس البرج بوصفه حالة
مكانية مع عالمه المكاني الحميم في الصعيد ،
لأن الذي بناه هو الزعيم جمال عبد الناصر ابن
الصعيد .
**
المكان المغلق :
إن
التضاد بين المكان الضيق والمكان المفتوح
يظهر جلياً في أعمال الكاتبة جمالات عبد
اللطيف ، وبخاصة تلك الأعمال التي تحكي عن
وجود نسائي يقاوم مجتمع يملك أكثر من دائرة
احتجاز تنداح كلها بعضها داخل بعض كدوائر
الماء عندما يلقى فيه بالحجر ، فالمجتمع
القروي له تقاليد صارمة في تربية البنات وله
تقاليد صارمة في الحد من حركتهن شابات وله
تقاليد صارمة تدخل البنات إلى دائرة الصراع
وتحولهن إلى كبش فداء لا يزيد عن العجول التي
تذبح بهجة لحدوث الصلح بين العائلتين
المتناحرتين فتجعل إحدى بنات هذه العائلة
هدية سلام ، فتزوجها مرغمة من رجل من رجال
العائلة الأخرى ( كما في الركض فوق هضاب
الشمس ) ، أو تختطف حلمها من الزواج بمن تحب (
كما في قصتها الطويلة : يا عزيز عيني ) .
وفي
قصة محاورة للكاتبة هند محمد عبد الرحمن
تدور بنية الأحداث حول الغرفة التي يتخذ
منها الكاتب عزلة تُقْصِيه عن الناس وعن
المشاركة الحقيقية في الحياة الإنسانية
البيولوجية ، وتشمل في أبعادها مكانية
الكاتب الذي يعمرها ويتخذ منها البديل
الكامل عن الحياة الإنسانية الفاعلة ،
فالعمر يمر ولا زوجة ولا أولاد ولا رغبة في
القراءة وإنما الكتابة فقط ، وهو في ملله لا
يكتب وكأنه اكتشف للمرة الأولى ضيق المكان ،
وأن الغرفة لن تصلح بديلاً إنسانياً مناسباً
عن العائلة .
فالغرفة
في هذه القصة تمثل المكان البديل الممتلئ
بالوهم الذي استبدل به
( الكاتب ) – بطل القصة - مكاناً أكثر اتساعاً
، هو ” المنـزل المدعم بالأطفال “ – على حد
تعبير الأديبة – ذلك المنـزل الذي يظل في
دائر التمني ولا يعاود الظهور إلا إشارة
وتلميحاً بوساطة تعبير الكاتبة في نهاية
القصة : ” محاولاً احتضان بقاياه “ ، أي
بقاياه الإنسانية من عمر وقوة وأمل لتكوين
حياة عائلية ، وبناء الأركان المعنوية
والوجدانية للبيت الذي يطمح في استبداله
بغرفته الضيقة ؛ وهنا تُبْـرِزُ الكاتبة في
تغيير قيمة المكانِ : المفهومَ الفلسفي الذي
يقول : ” إننا لا نرى إلا ما نعرف “ ؛ فقد حول
ميل البطل إلى الحياة العائلية والمنـزلية
رؤيته لغرفته التي عاش فيها الليالي
والسنوات الطوال متأملاً قارئاً كاتباً ؛
تحولت الغرفة إلى النقيض في غمرة بحثه عن
” الحبيبة التي تبعثر الدفء في أرجاء هذا
المكان المهجور “ الذي لم يبرح حالته الأولى
منذ انقطاع البطل إليه ؛ لكن الاصطدام
بالواقع والعمر الذي يمر وعُياء القريحة
ووحشة الفراغ ونضوب الذهن وعصيان الفكرة
وعدم الرغبة في القراءة كلها مقدمات جعلته
يعيد التفكير في واقعه وحياته ، فـ”يصطدم
بالواقع ، يجد نفسه سجيناً في جزيرة خيالية ،
مبهوراً بما فيها “ ، ثم يُعَلِّقُ أسبابَ
هذا الضياع العائلي على مفردتي الغواية (
الورقة والقلم ) ، وتصفهما المؤلفة وصفاً
شيئياً مكانياً ، فالورقة ” هي السفينة التي
أخذته إلى تلك الجزيرة “ ، والقلم هو الذي ”
كان قبطاناً “ على متن السفينة الورقية ، ثم
بلغت الأديبة بعملها إلى ذروته الدرامية ،
ودفعته للتخلص من الغرفة الضيقة المأهولة
المهجورة(8)، فيمسك البطل الورقة
والقلم بكل قسوة .. مزقهما .. حطمهما .. تمهيداً
للالتفات إلى النفس الاجتماعية الطامحة إلى
تكوين بيت عائلي فسيح مأهول أبداً بالأجيال
المتلاحقة ، وكأنه في تمرده على عزلته
واحتباسه في غرفته إنما يدرك آخر أنفاس
العمر قبل أن تنفرط من عقدها وتتناثر في
وحشـة الفـراغ ،
” محاولاً احتضان بقاياها “ .
في
ضوء هذا الفهم نجد القصة ترسو بكليتها على
الأرض مكاناً وزماناً ، وتتجسد عبر كل
معطياتها في فرد معزول وعاجز مستلب بمعنى أن
المكانية في هذه القصة لا تنشد العلو ولا
الترقي كما قي قصة ( الوسادة ) للأديب محمود
الطهطاوي ، ولا ( في ذكرى سيدي المغني )
للأديب خالد أبو النور ، قدرما تنشد مكاناً
متاحاً على الأرض .. أرض الواقع الذي انفصل
عنه الكاتب – بطل القصة – حبيساً بين جدران
أحلامه ورؤاه وتطلعاته وأفكاره ؛ فالقصة
ترسو على مشارف الوحدة / العزلة ، والغرفة /
البيت ، مع شمولها - رمزاً وواقعاً - للمحيط
الاجتماعي لها ؛ هي إذاً قصة وإن امتلأت بعمق
المكان ودوره وفاعليته ، إلا أنه لا تأويل
مكاني فيها بقدر ما تفصح عن هوية المكان
المألوف والكائن الذي يشغل حيزاً منه ، في
البيت وفي الجسد ، وعن الإنسان المستلب
المعبر عنه بالكاتب في عزلته والوحدة ؛
وتوظف الكاتبة هند محمد عبد الرحمن ضيق
الغرفة لخدمة التجربة والكشف عن البعد
النفسي اللاشعوري لشخصية الكاتب البطل ؛ كما
توظف فكرة العزلة الاجتماعية وانعكاساتها
النفسية داخل إطار المكان المغلق ؛ فعلم
النفس الاجتماعي يقول : ” إننا كلما زاد
احتباسنا في عزلة الذات ، وفي عجزنا عن
التجاوب الوجداني مع المجتمع ، زادت نذر
كارثة اجتماعية لا يمكن تجنبها إلا بالتغيير
، إذ يجب أن نعود سادة للحياة ، بعد أن تحولنا
إلى عبيد لذواتنا “(9) ؛ لكن المحتمل
دائماً هو أن نهرب من كارثة الجمود ، فنواجه
كارثة التغيير ، ما لم نكن نمتلك التوجه
المقنن لهذا التغيير ؛ وهو ما حدث مع البطل /
الكاتب الذي انقطع للكتابة محتبساً نفسه في
عزلته عاجزاً عن إحداث تجاوب اجتماعي مع
الخارج ( = خارج غرفة الكتابة ) .
وفي
قصة ( الوسادة ) للطهطاوي يكشف الكاتب عن مدى
إحساسه بالغربة المكانية التي لا يجد مهرباً
من خُنَّاِقها إلا النافذة ( الشُبَّاك ) ،
المنفذ المكاني الذي يأخذه إلى سطح مستشفى
الأنجلو الذي تراكمت عليه الأشياء المهملة ،
وبرج القاهرة الشامخ الذي يعيد أهل القاهرة
إلى حجمهم الحقيقي فهم فيه ليسوا سوى عصافير
صغيرة ، كالقاهرة التي يراها مغلقة ؛
فالقاهرة عند محمود الطهطاوي ليست سوى مكان
هامشي؛ بل إن الكاتب لا يقر له بالمكانية ،
فهو عندما يعرض له: يحوِّل دلالته إلى دلالة
زمنية، أو مجردة:”ليالي القاهرة“..،”يقف
شامخاً وسط دخان القاهرة الخانق“.
**
القيمة الاستبدالية للمكان :
لم
تترك الكاتبة هند عبد الرحمن القيمة
الاستبدالية للمكان دون الإفادة منها ، فقد
استخدمت الأسلوب الإبدالي في قصة ( صائدة
القلوب ) حيث هربت ببطلها من
واقعه المكاني الذي يملأه الحزن ” الذي
بنى أعشاشه في كل ركن من أركان البيت “ ، إلى
طفولته المختبئة بين أوراق الشجر ، تقول
الكاتبة : ” قلبه يتمايل بأغنية ذكرته ببلده
وطفولته ؛ فأخذ يبحث عنها كل يوم إلى أن
لمحها بين أوراق الشجر“ .
أما
الكاتب محمود الطهطاوي فقد عني باستخدام
فنية الإبدالات فتحولت - في قصته (الوسادة) -
مفرداتُ الواقع إلى أماكن ، فالراديو يبحث
فيه الكاتب عن نجاة الصغيرة أو أم كلثوم ؛
ورواية الكاتبة نورا أمين ( قميص وردي فارغ )
ليست سوى مكان مزدحم بالإبدالات المكانية
مثل إخراج اللباد والقميص المكتوب الذي
استطاع الراوي أن يدخله بوصفه بنية مكانية ،
فالكاتب هنا يحول مفردات الواقع المحيطة
وتفاصيلها إلى ما يشبه المكان الذي يعمره
سيل من المفردات المتأهبة للتحول ، إلى
المشاكلة بالصفة المكانية ؛ ولعل هذا
الأسلوب هو أهم ما يميز تلك القصة ؛ أسلوب
التحديد الصارم للمكان بدءاً من السرير
والوسادة ومروراً ببائع الصحف والوصف
الدقيق لمكانه المقابل لمدبولي في طلعت حرب
، وكذلك سطح مستشفى الأنجلو ؛ هنا تحديد حتمي
في بنية يمكن أن تفلت عناصرها من الكاتب إن
لم يكن متمرساً ؛ فالإبدالات - كما هو واضح -
شديدة الحساسية ، تتحول في سياقها المفردات
إلى صيغة مكانية : الإنسان ، والكتاب
والراديو والسرير والوسادة وبائع الصحف
ومساحة الفراغ من الأرض مصعداً نحو السماء ،
حتى الرأس تحولت إلى مفردة مكانية يدور
حولها عدد من الصور المكانية .
أما
بقعة أبي العز عند مدخل قرية ( سيدي المغني )
فقد حدث لها إبدالات رمزية ودلالية شديدة
الاتساع والحنكة على يد كاتبها خالد أبو
النور ، فقد بدأت بقعة أبي العز ببقعة دم
حمراء كبيرة تنذر بعفريت أبي العز يخرج
عليهم منها ليقطع عليهم الطريق فلا يدخل أو
يخرج من القرية أحد ، ثم تمادوا في سلبيتهم
فلم يفعلوا شيئاً إلا أن دفنوه في بقعته
بملابسه ، فصارت البقعة قبراً مخيفاً ينذر
القرية بالرهبة والشرور ، ثم في تطور جديد
وجدوا الكلاب التي أكلت قلب ولسان أبي العز -
وما المرء إلا بهما – صارت كلها أبا العز ،
وفي القصة دلالة رمزية على اطراد مفهوم
الحارس وحراسته للقرية وتجدد الأدوار
وإمكان الحلول والتناسخ .. إلخ ؛ فالكلاب قد
هجرت ماء البركة النجس وأقلعت عن التبول على
جدران البيوت ، وصارت تهيم في جنبات القرية
تغني غناء أبي العز ” أنفخ مزماري .. وأُصغي
لصوته .. .. وأنقر دفي فترقص طينتي “ ، لتبدأ
مرحلة أخرى عند بقعة أبي العز إذ وجدوا
الكلاب مذبوحة ومقطوعة الألسنة ، ثم بدأت
فكرة الضريح للمغني والكلاب .. وكلها مراحل
استبدالية حاول أهل القرية بوساطتها درأ
الرهبة عن أنفسهم والاطراد في ضلالهم
وسلبيتهم .
هذه
القيمة الاستبدالية تبلغ ذروة عملها عندما
تأخذ في أبعادها القيمة الزمنية والإسقاطات
الرمزية العميقة ذات السند الجماعي الذي لا
تُخطئُه الأفهام وبخاصة إذا كانت الإشارة
والإيحاء والرمز فنيات تتجه بكليتها إلى
الهم المشترك لأهل المكان مثل التردي العربي
والكرامة الضائعة والوطن السليب ، ففي بعض
الأحيان ” نعتقد أننا نعرف أنفسنا من خلال
الزمن ، في حين أن كل ما نعرفه هو تتابع
تثبيتات في أماكن استقرار الكائن الإنساني
الذي يرفض الذوبان ، والذي يود حتى في الماضي-
حين يبدأ البحث عن أحداث سابقة - أن يمسك
بحركة الزمن ؛ إن المكان ، في مقصوراته
المغلقة التي لا حصر لها ، يحتوى على الزمن
مكثفا ، وهذه هي وظيفة المكان “(10)
التي تمثل عند الكاتبة جمالات عبد اللطيف
المعادل الرمزي للوجود ، فقد تحولت الشخصية
السليبة الحبيسة إلى شخصية فاعلة عندما كفت
عن مطالعة السور من نافذتها ونزلت إلى
الفناء لتمسك بشاكوش تحاول به إحداث كسر في
السور الحجري ، وكأنها بذلك تحدث تحولاً في
الوضعين المكاني والنفسي لها ، فمنفذ السور
يعني التحول نحو البراح والانطلاق
كما
يعني التخلص
من
السجن
وكسر القيد المكبل لحريتها المستلب
لآدميتها.
**
المراوحة بين الصورة والدلالة ( الرمز
المكاني ) :
اهتم
كتاب نماذج الدراسة باستخدام فنية الرمز
المكاني بوساطة المراوحة بين الصورة
والدلالة ، وأكثرهم عناية بالرمز المركب
المقصود فنياً الكاتبة المتمرسة جمالات عبد
اللطيف والأديب المتميز خالد أبو النور .
فقصة
( طبل الشيخ رشوان ) للأديب خالد أبو النور
تفصح عن مستويين فكريين الأول هو المستوى
الاحتفالي للقرية بوصفها مكاناً له طقوسه
الاجتماعية والبيئية الخاصة التي يحرص على
إقامتها ورعايتها ؛ أما المستوى الثاني فهو
المستوى الرمزي الإشاري الذي يجسد الكاتب من
خلاله حالة خاصة من وجهة نظره هو ، بوصفه
راصداً ، تلك الحالة له عدة مستويات من بينها
البعد القومي العربي .
وفي
قصتها (الركض فوق هضاب الشمس ) فقد استخدمت
الكاتبة جمالات عبد اللطيف المستوى الرمزي
الذي ينطلق من التوحد بين الحبيسة وفلسطين
عبر تتالي صور الإحباط والقهر والظلم ؛
فتقوم بنية القصة على المراوحة بين مستويين
للأداء الفني أولهما المستوى السطحي الذي
ينقل صورةً للمرأة في بيئة الصعيد وما
تلاقيه من امتهان من أهلها بالزج بها إلى
أتون المنازعات وتحويلها إلى هدايا صلح ،
وما تلاقيه بعد ذلك من مهانة تجعل حياتها
دائماً في مهمة استثنائية لإبراز قدرة الرجل
والتأكيد على سلطته وتسيده للكائن والمكان ؛
أما المستوى الآخر فهو المستوى الذاتي /
الرمزي حيث يختلط في ( الركض فوق هضاب الشمس )
الوضع السياسي العربي الفلسطيني الذي ترمز
له الكاتبة بالكيان الحبيس الذي يمارس سجانه
ضده كل أنواع الامتهان والقهر والتعذيب
مُنَفِّساً عن السادية التي تتملكه ، وحصاره
لها داخل مكان ضيق يعزله عن البراح سور من
حجارة يلف المكان ليس فيه منفذ إلا باب عليه
أقفال مفاتحها في يده لا يفتح إلا له هو
وبإذنه ، اختلط هذا البعد السياسي بالبعد
الاجتماعي الذي تشكله قيم المكان في الصعيد
من عادات وتقاليد ؛ وقد تمثل هذا البعد في
الوضع الذاتي لامرأة حبيسة جدران بيتها
يغتصبها زوجها ويستعذب إهانتها وتعذيبها
ولا ينالها إلا بعد أن يضرب رأسها مرات في
الحائط حتى تفقد الوعي ثم تصحو لتجده في قمة
متعته وهي ملقاة في موضع قصي وقد لحقتها
المهانة الكبرى ، فهي الكيان الإنساني الذي
حمل في تفاصيله أبعاداً سياسية واجتماعية ،
تداخلت فيها قيم الذات مع قيم المجتمع ،
ومتطلبات الأداء الأدبي بمتطلبات القضية
السياسية في بُعد ومستوى أدائي ، والقضية
الاجتماعية للبيئة التي تنتمي إليها في بُعد
ومستوى أدائي آخر ، ولا يمكن للمتلقي
التعامل مع مستوى من مستويات القصة دون
التعامل مع المستوى الآخر ؛ لأن القصة عندئذ
ستفقد الكثير إن لم تفقد سندها الرئيس الذي
تصبو الكاتبة إليه في الوهلة الأولى ، وهو
يمثل في كتاباتها الخط الأول في بنية النص
الأدبي ؛ فإن أهم ما تمتاز به كتابات الأديبة
جمالات عبد اللطيف هو الاهتمام البالغ
بإبراز علاقة القرية بأهلها وأثرها في
تكوينهم إضافة إلى ارتباط القرية بالأوضاع
الاجتماعية في المستوى الظاهري لنصوصها ،
والأوضاع السياسية في المستوى الرمزي لتلك
النصوص .
أما
محمود الطهطاوي فعندما فَقَدَ شرط الالتزام
الشكلي بمظاهر نومه فَقَدَ معها الالتزام
الإشاري ذي العقدية ، فكان ينام على جنبه
الأيمن وتحول إلى النوم على ظهره عند فقد
الارتفاع والاكتناز المناسب للوسادة تحت
رأسه .
وفي
قصة ( المغيب ) يعرض خالد أبو النور قصة
القرية المغيبة في لحظة مغيب شاملة ؛ إنهم
يعيشون حالة من الاغتراب الجماعي ؛ لكن قمة
عمل الكاتب في هذه القصة تكمن في تأكيده على
الحقيقة الواقعة التي نعيش فيها الآن ، فكيف
يقول : إن عوضاً قد عاد وهو في الحقيقة لم يعد
، ولم يعد لنا الانتماء ، ولم تعد لنا الأرض
السليبة ، ونشعر أننا بحاجة إلى الانتماء
على الرغم من رغد الحياة ودعتها ولينها أو
انشغالنا في ضيقها وشقائنا ، فالوطن
المفتت إلى قرى ، والقرى المفرغة من
الانتماء ، لما يزل الجميع فيه بحاجة إلى عوض
الذي يخلق وجوده الأمن والاكتفاء ، فهو الذي
سيحقق لنا الذاتية ، ولن يقوم مقامه دعم
خارجي حتى وإن أتانا من جوف الإنسانية /
الجبل يمسك الخبز بيده ويحمل على ظهره قربة
ماء ويقدم للجميع عونه باسم الإنسانية إلا
أنه يسلبنا الكثير ، ولن يعوضنا عن انتمائنا
المفقود ، يقول الكاتب : ” كأن فارساً يخرج
من جوف الجبل .. بيده الخبز وعلى ظهره قربة
ماء .. يعطي كل الناس “ ؛ لذا سنظل نبحث عن
الرابط المكاني الذي يجمعنا مثلما كان
يجمعنا عوض .
والمكان
في قصة المغيب عنصر ذو فعالية مهيمنة على
الحدث ، وموجهة لفتيات المعالجة داخل النص ،
وهو غير منفصل عن البعدين الإنساني والزمني
وذلك من خلال الربط التام والامتزاج بين
المكان ووسيطه عوض ذي الصفات المشابهة
للمكان ، فعوض ابن الزمن : طرح السنين وصاحب
الملامح الجامدة ، تمخض عنه الجبل لذا له
لونه وصلابته ، وعوض هو القائد الذي يربط بين
المكان وأهله ولكن صيغة الغائب التي تحكي
بها القصة عن عوض تدل على حدوث حالة الانفصام
بينه وبين المجتمع الذي كان يطمح في قيادته
للهدى ، مع ملاحظة استخدام الفعل المضارع مع
أسلوب الفلاش باك عند طرح صور الطمأنينة
والأمن التي كانت تنعم بها القرية ، والتي
ذهبت بذهاب عوض : ” كل القرية تحب خادمها
الأسود ، لا معنى لليل بدونه يخرج متقدماً
النساء ناحية الترعة والخلاء لقضاء الحاجات
فيمشين في اطمئنان في حراسته وننام أبواب
البيوت مفتوحة ، فمن وجوده ينبع الأمان ؛
وكان عندما يأتي المخاض إحدى النساء ليلاً ؛
ترفض الداية الخروج من بيتها إلا معه ، حتى
البهائم لا تلد إلا في حضوره وبأنفاسه “ .
هنا إغراق في المزج بين البطل بشرطه المكاني
، وبين القرية ، وإغراق في رصد حالة الانتماء
للبطل والحرص على وجوده بوصفه رمزاً للصيغة
المكانية ، فالبطل وإن لم يولد في القرية
تحديداً إلا أنه البديل عن الغائب أو الشيء
المفقود ، وهو كذلك يمتلك صيغة أكثر شمولاً
من خلال ما بينه وبين الجبل من شبه ، فالجبل
امتداد يحرس القرى بشموخه وصلابته ، وهو
أعلى منها قيمة وقوة وهيبة ومكاناً ، ويحول
الكاتب الرمز في قصته من أفقه الضيق ( القرية
/ البلد ) إلى مفهوم أكثر اتساعاً هو مفهوم (
القرية / الوطن الكبير ) فالقرية ليست مصر بل
هي الوطن العربي الكبير .
وعوض
( المغيب ) هو نفسه مغني الضريح في قصة ( في
ذكرى سيدي المغني )؛ فالمغني ليس فرداً امتهن
الغناء بل هو كيان أيديولوجي اجتماعي مستلب
يعوضه المجتمع بالوهم ( الضريح ) ؛ ثم يرتفع
"الضريح" من كونه نُصُباً مقاماً على
مساحة ضيقةً من القرية إلى قوة تحرس الكيان
الاجتماعي والإنساني للقرية ؛ فكما يتوحد
الفراغ بالعقلية المكانية ؛ يتوحد كذلك أهل
المكان بالتغييب الكامل الذي يصل بهم إلى
التوحيد بين المغني وكلابه الأربعين
اتحاداً يعكس جانباً من حساسية الثقافة
الشعبية في تلك الحقبة التي يسجلها خالد أبو
النور ، ودفعته رؤيته للوعي المستلب إلى سحب
شروط تلك الرؤية على البيئة بأكملها ، لأن
الضلال لا يلد إلا ضلالاً ، فنتاج عام كامل
من الأطفال تحول إلى نسخ من شخصية المغني
بأبعادها التي تدركها القرية ، حيث أطلقوا
على كل من ولد في عامهم الذي انهار فيه
الضريح ونبشت فيه قبور المغني والكلاب اسم (
أبو العز ) المغني ، فكانت النتيجة الدرامية
أن احتضنت البلدة من جديد أربعين شيخاً
ضريراً كلهم ينشدون ما كان ينشده أبو العز :
” أنفخ مزماري ، وأُصغي لصوته .. وأنقر دفي
فترقص طينتي “ وكأن الكاتب يريد من هذا النص
الموجز أن يضيف لحظة تنوير تشير إلى أنه وإن
زمر فيهم ونقر دفه إلا أن أحداً لا يدرك فهو
فقط من يسمع صوت مزماره وهو وحده من يرقص على
إيقاع دفه ، وهنا يتماس دور أبي العز المغني
بوصفه مخلصاً مع دور عوض الذي يحمل سماته
نفسها ، بل إن الكاتب يصرح في حديث شخصي لي
بأن أبا العز هو عوض نفسه .
هذا
العمى المطبق على الواقع جعل القصة ترسو فوق
أرض تتقاذفها أهوال الضلال والتردي في مكبات
التخلف والحرص عليه من خلال الحرص على بعث
الأسطورة وإعادة الوهم إلى المكان من خلال
إسباغ أبعاد شخصية أبي العز على أطفال
القرية ، فكلهم جاء إلى الوجود ضريراً ،
أربعون طفلاً (11) ، منهم من استهل
الحياة بالغناء مردداً إنشاد أبي العز ،
ومنهم من استهل الحياة نابحاً ككلابه ، وإن
بدا ذلك بأنه قدرية غرائبية ، إلا أن الحقيقة
أن ما تم لم يكن إلا إرضاءً للحالة النفسية
الشعبية لأهل المكان المفقود ، وأمنية اختلط
فيها الوهم بالرغبة الجامحة لاستعادة ( مولد
أبو العز وكلابه ) بخلق نسخ من أهل القرية
للجانب الذي رأوه أو أرادوا أن يروه في أبي
العز ، فصار كل شىء في أمكنة ( سيدي المغني )
مستلب ومُغيب ومغطى بالعمى والظلمة ، ولعل
هذا المناخ من الضلال الملتبس بالفوضى هو
الذي حول ضلال بصيرة المخلص الشيخ أبو العز ،
الذي كانت تهب عليه الكلاب الضالة تحاول
الفتك به ، ولكنه بنور بصيرته - وهو أعمي
البصر - كانت حجارته دائماً تسبقهم ولا تخطئ
طريقها إلى رؤوسهم ، لكنها بعد غلبتها عليه
استطاعت الكلاب الضالة أن تتمثل في صورته
مرتين ، في المرة الأولى عندما أكلت قلبه
ولسانه ، وفي المرة الثانية عندما جعلت من
نباحها بديلاً مادياً لغنائه في استهلال
الأطفال الذين أنشد بعضهم ونبح البعض الآخر
؛ فالمأساة قد
تغلغلت في أهل المكان ولا سبيل إلى التخلص من
ذلك الضلال لأنهم ألبسوا الحق صورة الباطل ،
وما زال الماضي حاضراً بشروطهم الضالة ككلاب
القتلة ، من خلال أسطورة التناسخ التي حولت
أربعين طفلاً إلى مسخ من المغني الذي يرونه
داخلهم معيناً على الغي والضلال ، لا المغني
الذي كان يطمح في تخليصهم من جمودهم ، ففي
ذاكرة المكان عند الضريح شىء من الاسطورة
التي حاكها أهل القرية، وغرسوها في الضريح
موتاً وولادة، موتاً بعد قتل المغني
ودفنه،وولادة عند تناسخ صورته التي يرونها
هم له في أولادهم؛وسهروا على
روائها
وعملوا على
إنمائها.
والقصة
بها سخرية لاذعة من المفهوم لسائد لدى
العامة حول الأماكن الحارسة التي تتمثل في
القرى ولدى القرويين في ( الأضرحة ) وإن كان
الضريح لمغنٍ عربيد وأربعين كلباً ، وهي
محاولة يائسة للوقوف على الأطلال ، والنفخ
بروح الحياة في مكان مَيْتٍ ، تنكر لهداه
وأغرب في سلبيته ، فقد كان "عوض" في (
المغيب ) هو المُخَلِّص اليائس الذي نفض من
القرية الغافلة يديه ورحل ، وهو "المغني"
الواقف عند مدخل القرية يحرسها ، ثم انقضت
فاعليته بنبش ضريحه ، والضريح يشمل في
أبعاده الغناء واللهو ، الذي يمثل هوية
المكان ومكانته ، هو الدور الذي يؤديه
الضريح الذي يرقد فيه المغني ، تلك الشخصية
ذات الدور المزدوج ، فهي تعني عند الكاتب
المخلص الذي قتلته القرية ( وهو "عوض"
نفسه في "المغيب" ، وفي "حارس السوق
القديم" وفي "طبل الشيخ رشوان" ) وهو
القيمة الرشيدة التي تحولت عند أهل القرية
إلى ضلال .
ثم
ينشد الكاتب مكاناً جديداً يتقبل الخلاص ،
لكن مكانه الجديد نفسه سرعان ما يتحول بدوره
إلى طلل ، يرزح تحت وطأة أربعين ضريراً لا
يرون ، كالمغني المقتول صاحب الضريح .
**
الامتزاج بالمكان :
يقول
رولان بارت في كتابه "العلبة النيّرة":
إن الصورة الشمسية غير معنية بالتذكير
بالماضي ، ولكنها شهادة على أن هذا الذي أراه
قد كان موجوداً حقاً "فالصورة لا تتحدث عن
الذي ما عاد موجوداً ، وإنما تتحدث عما كان
فقط . فالوعي لا يتعامل مع الصورة عن طريق
الحنين ولكنه يؤكد اليقين. وجوهر التصوير هو
التصديق على ما يمثله هذا التصوير".
فالامتزاج
بالمكان عند خالد أبو النور محصور تقريباً -
في معظم أعماله – في العلاقة بين شخصية
المخلص وبين القرية ففي قصة ( في ذكرى سيدي
المغني ) نجد أن القرية تتوقف فعاليتها
وكونها مكان جذب يحج إليه الناس على عامل مهم
هو ضريح سيدي أبو العز الدفاف ، الذي يحب كل
القرى وكل القرى تحبه ؛ ثم تكشف تفاصيل القصة
عن مدى الارتباط بين القرية والمغني الذي
يشبه ضريحه الحارس الذي يدرأ عن القرية
المهالك والشرور ” فمر الحال بغنائه يحلو
..“، و” القرية بغنائه لم يصبها الطاعون في
عام الطاعون“.
وفي
( حارس السوق القديم ) نجد السوق القديم
قائماً في وسط الميدان ، مقدماً عند أهل
المكان على كل شيء ، وعن غيره من الأماكن حتى
وإن كان المكان البديل هو الجنة نفسها ؛ وقد
وصف الكاتب خالد أبو النور السوق بأنه قديم
ليوحي بالأصالة والامتداد كما يوحي
بالاستمساك بالإرث والجذور ، وكونه وسط
الميدان يؤكد هذه الإشارية ومدى الفاعلية ؛
ونلاحظ التسمية الالتباسية الواصفة هنا ،
وهي تدل على الامتزاج الشديد كذلك ، فمن
القديم هل هو الحارس أم السوق ؟ والوصف
بالقدم هنا وصف امتدادي يشي بالجدة والأصالة
لا البلى والتخلف ، والربط بين المكان
وحارسه ربط إشاري كالربط بين الأصالة
والانتماء وبين وجودنا ، وقد بلغ الامتزاج
بين المكان وحارسه مداه لدرجة دفعت الحارس
إلى أن يوصي ابنه بدفنه في قلب السوق عند
موته ؛ فقد بلغ الارتباط بين الحارس وبين
المكان ذروته ، فالحارس يشغل دور الرقيب
والرقيب تنبذه النفسية المنغلقة التي تكره
انكشاف خبئها ؛ فكل الناس ينتظرون موته ،
وينير الكاتب أبعاد تلك الشخصية المكانية
التي نكتشف في النهاية أنها هي المكان نفسه ،
فالحارس الرقيب لا يملك إلا مقياساً واحداً
هو مقياس الحق ، لذلك صوته جهوري لا يئـز ولا
يهمهم ، بينما الناس تشيع فيهم الفوضى
والبهمة وعدم الوضوح ، فعندما يجتمعون يُسمع
لهم ” أزيزٌ كأزيز النحل ، وتغشى المدينة
الهمهمات“ ، وقد بلغ فرط امتزاج الحارس
بالسوق إلى أنه إذا عاد بعد غيبة ساعة ، لا
يقر له قرار إلا إذا اطمأن على استقرار
العناصر البيئية من حوله ، حتى جاء اليوم
الذي ” سبقته الشمس إلى السوق وانتظرته بلا
جدوى ، وظلت تبحث والناس عنه ، ولكنهم لم
يجدوه ؛ فذهبت هي إلى مغيبها وانصرف الناس
إلى مشاغلهم .. وبات السوق القديم بلا حارس “
.. ، فاستخدام حرف الفاء للربط في قوله ( فذهب )
له دلالة صريحة وذات وضوح جلي يؤكد عليها
ثقتنا في الكاتب وقدراته الفنية ، فالفاء
تفيد في اللغة الترتيب والتعقيب إذ لا حائل
بين ما قبلها وما بعدها ولا فوارق زمنية
فهؤلاء عندما لم يجدوا الحارس ذهبت الشمس
إلى المغيب صباحاً والناس إلى مشاغلهم
بعيداً عن السوق بعد أن كانت تلك المشاغل فيه
، في السوق الذي هو في الأصل مكان البيع
والشراء والربح والخسارة .. ؛ وأكد الكاتب
مفهوم الضياع بجملته : ” وبات السوق القديم
بلا حارس “ ، فيتجلى عند هذه العبارة
الختامية أن السوق القديم إنما صار قديماً
بعد وفاة الحارس إذ انقضى السوق بقضاء حارسه
وانتفى دور السوق بفنائه ، فهو الذي بلغ
أقصى حالات الامتزاج المكاني مع السوق الذي
يحرسه .
ويبرز
الكاتب محمود الطهطاوي في قصة ( الوسادة )
ارتباطه الشديد بالمكان الخاص ( مكان النوم )
؛ وما عاناه من فقد وقلق عند هجره وسادته إلى
وسادة هشة في القاهرة ، تلك التي يراها مدينة
زمنية مجردة لا تستحق الصفة المكانية ؛
فالراوي عندما يضيق بالوسادة الممتلئة بنسخ
مكررة لشفاه غليظة محتشدة بالرغبة وبها
كلمات بلغة أجنبية وهو لا يجيد لغة أخرى غير
لغته ؛ يراها وسادة غير مناسبة لشروط راحته
التي اعتادها في بيته بالصعيد ، فهي هشة
واهنة غير وقورة فيها اغتراب لغوي ممزوج
برائحة التنكر للانتماء العربي ؛ فيهرب إلى
الإبدال ، من خلال التحول القيمي ، فلا راحة
له إلا إذا عاد – وهو ابن الصعيد – شامخاً
مثل برج القاهرة الذي لم ينقذه من دخان
القاهرة الخانق إلا شموخه وعظمته وترفعه عن
أرض القاهرة ؛ لكن هذه الحدة والعنصرية في
النظر السلبي للقاهرة لا يغرر بنا فنظن أنه
نابع من فرط ارتباط الكاتب بمكانه الأول
وبيئته الأم الصعيد ، فما توحي به القصة في
تفاصيلها هو على خلاف ذلك ، فارتباط الكاتب
بمكانه الرئيس ليس قوياً بل يظل أقل حدة من
عدائه للمكانية القاهرية ، فهو يُلبس على
القارئ السطحي بعبارة ” عندما أغير مكان
نومي أصاب بالأرق “ ، فقد كشف بعد ذلك أنه
اعتاد هذا الأرق ، فهو إذن أرق غير مقلق ، ثم
يعود ليهز عادة تعودها في مكانه الأول ، هذه
العادة هي الحمام الساخن ، فالماء في حمام
غرفته بارد إلا أن وطأة السفر أجبرته على
التنازل عن شرط سخونة الماء ، وأخذ حماماً
بارداً ، ويصف الكاتب ذلك الحمام بقوله : ”
الماء البارد أصاب الجسد المنهك بقشعريرة
ورِعشة أَحَسَّها تخرج من روحه ، ولكن سرعان
ما اتسق الجسد المنهك وتأقلم مع الماء ،
فوجدتني أشعر بسعادة دفعتني إلى الدندنة
وإلى السرحان كالعادة في كل ما يهم ذاكرتي
المشحونة بالكثير “ ؛ لنكتشف أن عادته التي
بنى على فكرة استلابها قصته ، ليست سوى مسوغ
ادعائي لطرح الصراع الوجداني الرافض
للقاهرة ، فالعادة ترتبط بالشخصية التي
اعتادتها فإما أن تكون الشخصية قديرة على
تجاوز أسر الاعتياد مطلقاً ، وإما أن تكون
عاجزة أمام عاداتها تلك ، عندئذ يمكنها
التنازل مطلقاً عن كل العادات في حالة
القدرة ، ولا يمكنها في حالة العجز ؛
والشخصية الرئيسة في القصة تملك القدرة على
التنازل عن العادات ، بل والامتزاج مع
العادات الجديدة ، والتعايش مع الواقع
البديل ؛ ويؤكد الكاتب ذلك عندما يشبه
حمَّامه بقوله ” كأن الجسد دخل حاجاً وخرج
كما ولدته أمه ، بكراً ، خالياً من الأدران ..
فعل الطهر هذا يجعل الجسد يمتزج بالروح
فتشعر بتلك النشوة وأنت منسجم مع الماء “ ،
هذا الكاتب القادر على التخلص من أسر
العادات بل المنسجم مع الحالات البديلة
للعادة ، ما المسوغ الذي يجعله يشعر بالأرق ،
إن المبرر الوحيد هو النظرة الرافضة للحياة
في القاهرة والتي لا تتعارض مع سعي ابن
الصعيد للطهر الظاهري ( الحمام ) والنفسي
( تشبيه الاغتسال بالحج ) ، ويساند هذه الرؤية
سكينة الراوي ومحاولته الاستغراق في النوم
رغم التواء العنق بعد تشبهه بالبرج وتمثله
حالة شموخه ، فقد نبعت تلك السكينة من اجتلاب
مساندة بيئية من مكانه الأول ؛ فالبرج الذي
بناه جمال عبد الناصر جعله يتساءل ” لماذا
لا أفعل مثله وألقي برأسي على وهج الوسادة
الواهنة بشموخ وعظمة“؛ فتبرز الإشارة إلى
الارتباط الأكثر اتساعاً بين الكاتب وبين
طهطا وتهميش مكانية القاهرة على الرغم من
حياته فيها ؛ لتهميش القاهرة لانتمائها
وتنكرها للقيم المصرية والتقاليد الشرقية
المحافظة .
**
وفي الختام :
لا
أرى أهمية لإيجاز رؤية الدراسة للأعمال التي
تناولتها ففي عرض الدراسة غناء عن ذلك ؛
وإنما باختصار شديد أتحدث عن الأساليب
السردية التي استخدمها الكُتَّاب في
أعمالهم ، تلك الأساليب التي جاءت منوعة
ومتعددة ؛ فمنها أسلوب السيرة الذاتية كما
في أعمال محمود الطهطاوي ، وجمالات عبد
اللطيف ؛ وأسلوب الراوي المفرد كما في أعمال
خالد أبو النور ، وهند عبد الرحمن ؛ أما
أساليب الاسترجاع والمونولوج والحوار
والرسائل والسرد المزدوج فهي من الأساليب
التي حفلت بها كتابات السيدة جمالات عبد
اللطيف ، بوعي تام ، وكادت تنفرد بها في
كتاباتها لولا مزاحمة من الخارج عليها في
كتابات محمود الطهطاوي ، وهند عبد الرحمن ،
وخالد أبو النور ؛ ودائماً هناك ما يلفت
الانتباه عند هؤلاء الكتاب في الكيفية التي
يستخدمون بها تلك الأساليب السردية على نحو
يخدم المكان والحدث معا ، فكان لكل أسلوب من
هذه الأساليب جماليته التي ساهمت في إضفاء
بعد جديد للمكان ؛ ولعل أهم ما يميز أساليب
استخدام المكان في الأعمال الأدبية لدى كتاب
الصعيد بعامة ، وفي نماذج هذه الدراسة بخاصة
؛ أن الأديب يعيد نتاج المكان في مخيلته لا
مما يبصره في العالم الخارجي المحيط به
مجرداً بأبعاده الواقعية الحقيقية ؛ وبذلك
استطاع الكتاب تخطي الأحداث الناتجة عن
الناتج والمنتج ، أو السبب والمسبب ، الذي من
شأنه أن يقدم لنا أعمالاً جوفاء ، تصور
الواقع بلا صدى ، فتجعل النص كالواقف في الظل
بلا ظلال .
ثم
أما بعدُ : ففي
الختام نوقن أنه من الصعب أن نختتم بحثاً ،
وإنما نعمل فقط على التخلي عنه آنياً قبل أن
يتخلى عنا الوقت ، وبذلك يبقى البحث مفتوحاً
، وتبقى فيه ثقوب وفراغات ، يملأُها القارئ
الحصيف ؛ وغاية ما في الأمر أننا نُغادر
البحثَ وفي أنفسنا أشياءَ منه ، غلبنا عليها
الوقت أو التقصير وحُبسةُ الالتزام
بكُتَّاب بأعيانهم وترك ما عداهم حسبما
ألزمنا المنهج المقترح ؛ وحسبنا أن
عَلَّلْنَا النفسَ بأمل المُعاَوَدَةِ
درساً وبحثاً وتنقيحاً وحدساً ؛ لتغطية ما
تركنا من نقاط وما أجملنا من إشارات ؛ وما
عملي هذا إلا عملُ مَنْ مِنْ سِمَاته العجز
عن الكمال والتقصير في الأعمال ؛ ولا نقول
إلا كما قال الراغب الأصفهاني : إني رأيت أنه
لا يكتبُ إنسانٌ كتاباً في يومه إلا قال في
غَدِهِ : لو غُيِّـر هذا لكان أحسن ، ولو
زِيدَ كذا لكان يُستحسن ، ولو قُدِّم هذا
لكان أفضل ، ولو تُرِك هذا لكان أجمل ، وهذا
من أعظم العِبَـر ، وهو دليل على استيلاء
النقص على جملة البشر .
**
أولاً : أسانيد النماذج النصية
1
– جمالات عبد اللطيف :
·
الركض
فوق هضاب الشمس، مجلة الطهطاوي،العدد
السابع، صيف2000م،ص:36.
·
يا
... عزيز عيني– قصة قصيرة- كتاب(الفائزون)أعمال
المسابقة الأدبية الرابعة لنادي طهطا
الأدبي لعام2000م، سلسلة كتاب الطهطاوي
الأدبي(الإصدارالسابع)،ص:10.
·
يا
عزيز عيني – قصة طويلة– كتاب الطهطاوي(الإصدار8)،
نادي طهطا الأدبي2001م.
2
– خالد أبو النور :
·
أنات
من الوجع والقص ، مجموعة قصصية ،القافلة
للطباعة والنشر ، سوهاج
2000م.
3
– محمود الطهطاوي :
·
دكة
المقدس يوسف ، في مجموعة :”دكة المقدس يوسف“
، كتاب الطهطاوي (الإصدار 4) ، ط1 - نادي طهطا
الأدبي ، مايو 1999م .
·
الوسادة،النشرة
اليومية للمؤتمر الأدبي الأول لإقليم وسط
وجنوب الصعيد، سوهاج ، العدد الثالث في 18 / 5 /
2000م ، ص: 2 .
4
– هند محمد عبد الرحمن :
·
صائدة
القلوب، ضمن مجموعة قصص للكاتبة نشرت في
كتاب(الفائزون)، ص:13.
· محاورة ، مجلة الطهطاوي ، العدد السابع ، صيف 2000م ، ص : 40 .