|
|||||
I كلام صريح I المسلمون في الهند I النخبة I الهند - التكنولوجيا والمعلومات I الهنود والنكات I التعليقات I |
|||||
|
المقالات |
||||
البروفيسور أبوبكر زين العابدين عبدالكلام : من بيع الصحف على الأرصفة الى رئاسة الجمهورية بقلم : د. عبدالله المدني* مهما قيل في أسباب اختيار عالم الصواريخ الهندي أبوبكر زين العابدين عبد الكلام رئيسا جديدا للجمهورية الهندية خلفا للرئيس الحالي نارايانان الذي تنتهي ولايته قريبا , فان الحدث يؤكد جملة من الأمور: أولها أن الهند لا تزال دولة ديمقراطية علمانية يستطيع فيها أي مواطن , ومهما كان انتماؤه العرقي أو المذهبي أو الجهوي , أن يبلغ أعلى المراتب إن هو اجتهد وثابر وانخرط بجد في الهياكل المؤسساتية القائمة وانحاز الى الوطن قبل الطائفة والدين والعرق . وإلا كيف نفسر وصول الرئيس نارايانان المنتسب الى طائفة المسحوقين الى سدة الرئاسة قبل خمس سنوات. بل كيف نفسر أن الدولة الموصومة في أدبياتنا بالتحيز ضد طائفتها المسلمة وضعت على رأس برنامجها النووي شخصية مسلمة وعلى رأس مجلس شيوخها مواطنة مسلمة هي السيدة نجمة هبة الله حفيدة الزعيم الاستقلالي الكبير مولانا أبو الكلام آزاد , فيما آلت صفة أغنى أغنياء الهند الى مسلم هو عظيم هاشم الذي يجلس فوق ثروة تقدر بحوالي ثلاثة مليار من الدولارات و يوصف ببيل غيتس الهند لنشاطه في حقل برامج المعلوماتية , ناهيك عن الآلاف من المسلمين الذين يشغلون مناصب متقدمة في سلك الخدمة المدنية والجهازين الدبلوماسي وةالعسكري . وحدهم المتقاعسون والكسالى والمستسلمون لروايات وخطب بعض الأئمة ضمن الأقلية الإسلامية البالغ تعدادها نحو 150 مليون نسمة , لا يصلون إلى شيء ويلقون بتخلفهم على شماعة الاضطهاد والتمييز . على أن هذا الكلام لا يعني أن مسلمي الهند دون مشاكل وأن أحوالهم على أفضل وجه . لكن ما نريد التأكيد عليه أن مشكلاتهم ومظالمهم التي زادت في الفترة الأخيرة كنتيجة لبروز تيار هندوسي متعصب لا حل لها إلا من خلال التفاعل والمشاركة الجادة والإيجابية في الحياة السياسية ضمن الأطر والقنوات التي يوفرها الدستور , لا من خلال الاستسلام أوالاكثار من الشكوى والاختفاء خلف شعارات بائسة أو اللجؤ الى العنف والعنف المضاد. واستطيع من موقع العالم بشئون الهند , ان المسلمين الهنود , ورغم كل ما حدث في السنوات الأخيرة , يملكون هامشا واسعا من الحريات والحقوق لا يتوفر مثلها لأقرانهم في البلاد الاسلامية الخالصة . وثانية الحقائق التي أكدها اختيار عبدالكلام لرئاسة الجمهورية , أن الهند وفية لأبنائها المبدعين وتكافأهم على نبوغهم وترفعهم الى أعلى المراتب . حدث ذلك من قبل مع رؤساء الجمهورية السابقين من أمثال رادا كريشنان ( الفيلسوف والأكاديمي اللامع الذي تولى التدريس في جامعات أجنبية مرموقة ) و شنكار شارما ( الحقوقي البارز الذي لمع كأستاذ في جامعة كمبردج البريطانية ) , ويحدث اليوم مع عبد الكلام . وفي كل الأحوال لم يشكل معتقد المرشح الديني أية دالة , بدليل أنه الى اليوم عهد برئاسة الجمهورية الى ثلاثة مسلمين من بين 11 رئيسا فيما لم يشغل المنصب أي مسيحي , و واحد فقط من طائفة السيخ في الفترة مابين 1982 – 1987 هو الأكاديمي زيل سينغ . يردد البعض أن تأييد اليمين الهندوسي الحاكم في نيودلهي لترشيح عبد الكلام جاء من أجل أغراض انتخابية وكوسيلة للتقرب من الناخب المسلم بعد المجازر التي حدثت على أيدي محسوبين على هذا اليمين ضد المسلمين في ولاية غوجرات . وإذا صح هذا فكيف نفسر وقوف المعارضة بجميع فصائلها ( ما عدا الحزب الشيوعي الحاكم في ولاية البنغال الغربية والذي كان له مرشحه الخاص ممثلا في السيدة لا شكمي ساغال ) في نفس الخط , وهي التي تتحين الفرص دوما للنيل من الأئتلاف الحاكم وفضح مخططاته ؟ و يردد فريق آخر أن إسناد منصب الرئاسة الهندية الى مسلم لا يعني شيئا انطلاقا من أنه منصب شرفي لا يقدم ولا يؤخر. لكن من يستطيع أن ينكر أن صاحب هذا المنصب يلعب , وبحكم الدستور , دورا حاسما في تسمية رؤساء الحكومات وقت حدوث أزمات سياسية ناجمة عن عدم حصول أي من الأحزاب السياسية على أغلبية واضحة في الانتخابات النيابية العامة. و دورا حاسما في تقرير حل البرلمان من عدمه ؟ بل من يستطيع أن ينكر أهمية دور خطابه السنوي المباشر الى الأمة لجهة تعزيز وضع الحزب الحاكم عبر الإشادة بإنجازاته أو تدمير مكانته الشعبية عبر انتقاد سياساته ؟ و هناك من يردد أن عبد الكلام مجرد مسلم على الورق , على نحو ما قالته مؤخرا كاتبة صحفية عربية , مستندة فقط الى معلومة مفادها أن الرجل درس الكتاب الهندوسي المقدس المعروف باسم " بهاغفات غيتا " وتأثر ببعض مضامينه الفلسفية . لكن مالم تذكره الصحفية المذكورة أن عبد الكلام درس أيضا القرآن الكريم وحفظ العديد من سوره , ناهيك عن أن الإطلاع على الكتب المقدسة عند الآخرين لم يكن يوما مبررا للتشكيك في إيمان المسلم , طالما أن هذا الإطلاع هو من باب العلم بمعتقدات وطرق تفكير من يعيش وسطهم ويتعامل معهم من أبناء شعبه . وعلى العكس تماما مما ذكرته الصحفية العربية , يؤكد معارف عبد الكلام أن الرجل مسلم ملتزم , يؤدي الصلوات في مواعيدها الا في الحالات القاهرة , ويصوم رمضان , ولا يحتسي من المشروبات سوى الشاي , وشديد الحرص على القيام بواجبات صلة الرحم . كل هذه الأقاويل و غيرها لم تستطع التشويش على الحدث أو التقليل من أهميته في وقت تحكم فيه الهند جبهة من الأحزاب يسيطر عليها حزب " بهاراتيا جاناتا " الذي وصل الى السلطة عبر اجندة محورها تحويل الهند الى دولة أحادية الثقافة . إذ يراهن البعض على قدرة عبدالكلام بما يمتلكه من إجماع كبير حول شخصه وبما يحظى به من احترام و بما تتضمنه سيرته من البعد عن انتماء سياسي معين , على إضفاء طعم ودور جديدين لمنصب رئاسة الجمهورية في الهند, وعلى تشجيع مسلمي الهند على انخراط أعمق في الحياة السياسية وانشطة المجتمع المدني . فإذا ما فتشنا في السيرة الذاتية لعبد الكلام , نجد أنها لا تختلف عن سير الكثيرين من أقرانه العلماء أو سير زعماء ورموز الهند المعاصرين . فهي حافلة بصور الكفاح والصبر والاستماتة من أجل مستقبل علمي وعملي زاهر , وسط أجواء معيشية واجتماعية كئيبة يسودها الفقر والإمكانيات المتواضعة والتقشف الشديد والخيارات المحدودة , مما يجعلها صالحة كمثال للتحدي والعزيمة وقوة الإرادة , وأيضا كمثال للترفع عن الأنانية والابتعاد عن التعصب الأعمى للملة أو الطائفة أو العرق . ويكفي القول أن الرجل بدأ مشواره وهو لا يزال طفلا صغيرا كبائع للصحف على أرصفة الطرق أو كموزع لها على المشتركين فيها , وذلك من أجل أن يوفر لنفسه نفقات طعامه و كتبه . لكن هذا الطفل الذي كان يسوق أخبار صناع الحدث , صار بنفسه خبرا وصانعا للحدث في العقد السادس من عمره حينما قفز الى الواجهة كشخصية علمية فذة تقود أكثر من 35 ألف عالم وباحث في مختلف فنون المعرفة التكنولوجية وكعقل ساهم في تأهيل الهند لدخول النادي النووي و ذلك من بعد رحلة أربعين عاما في الحقل العلمي أنجز خلالها الكثير لبلاده ابتداء من منصات إطلاق الصواريخ في بداية الثمانينات وانتهاء بالصواريخ القادرة على حمل الرؤوس النووية في التسعينات . على أن كل هذه الإنجازات الباهرة لم تتسبب في دخول فيروس الطمع والجشع والغرور الى نفس عبد الكلام . فهو لا يزال متواضعا مثلما كان دائما , قريبا من البسطاء , وفيا لأسرنه وأصدقائه ومعارفه وأهل بلدته , رؤوفا بمرؤوسيه وطلبته. الى ذلك فهو زاهد في مباهج الدنيا ومغرياتها , يكتفي بالسكن وحيدا في شقة مفروشة مكونة من غرفتين , ولا يقترب الا من الأطعمة النباتية , ولا يمارس من الهوايات إلا أبسطها , ولا يتطلع في أوقات فراغه القليلة إلا الى القراءة ونظم الشعر . وحينما سئل ذات مرة عن أسباب عزوفه عن الزواج , رد قائلا " لو كنت متزوجا لما استطعت حتى تحقيق نصف ما أنجزته في مشواري " , فبدا كمن يريد القول أنه وهب نفسه للعلم ولا مكان في حياته لسواه . ويخفي عبد الكلام خلف ملامحه الهندية الصميمة وشعره الكث المتدلي فوق جبهته وصدغيه والشيب المكتسح لرأسه برعونة , طباعا هادئة قلما يتسلل إليها الانفعال والغضب , وشجاعة في اتخاذ القرار كشجاعة القادة المحاربين , وميلا حادا للاكتشاف وفك الطلاسم أشبه ما يكون بنزعة الفضول عند النابغين من الأطفال , مصحوبا بقدرة عجيبة على العمل المتواصل دون كلل أو ملل . وفي معرض الحديث عن نبوغه المبكر , وأيضا عن وفائه لمن كان لهم فضل عليه , يقول س. ت. مانيكام الذي كان يملك مكتبة في مسقط رأس عبد الكلام أن الأخير وهو في سن الطفولة كان دائم التردد على المكتبة وكثير السؤال عن الكتب الجديدة , وكان يلتهم كل ما يقع تحت يديه قراءة واستيعابا , وأنه حتى بعدما أصبح علما من الأعلام لا يكف عن مراسلته في المناسبات السعيدة ولا ينسى الإشارة الى أفضال المكتبة وصاحبها عليه . ويمكن للكلام عن عبد الكلام أن يطول , لكننا نكتفي بالقول أن أفضل وأقصر وصف لشخصه وعلمه وخلقه وإنجازاته هو أنه عبقري مشبع بالوطنية . تاريخ المقال 23 يوليو 2002 *باحث و محاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية elmadani@batelco.com.bh
(المقال مصرح بنشره من كاتبه ) أكتبوا إلينا آراءكم وتعليقاتكم: الآراء و التعليقات
|
|||||