في مستهل
كل فصل دراسي في جامعة الكويت، بينما يأخذ النشاط الأكاديمي يدب في كل مفاصل
الجامعة رويدا رويدا، و تنبض الحياة مجددة في الفصول الدراسية التي تتهيأ
لاستقبال محييها – دكاترة و طلبة
–
على أهبة الاستعداد، و تعم الأجواء الطافحة بالغبطة و المشحونة بالحركة و
الباعثة على الأمل على الجميع
في
كل أرجاء هذا الصرح الأكاديمي
الراقي، ينادي دكتور في فصل من الفصول الدراسية بأسماء الطلبة المسجلين لديه و
يمر بعيونه على وجوههم النضرة و النيرة مرورا كراما، فجأة يشد انتباهه إلى
طالب غالبا ما يجلس في ركن من أركان الفصل لا حياة فيه و لا حراك، مبقيا
المسافة الكافية بينه و بين باقي زملائه، و كأن بينهما برزخا - حاجزا - لا
يبغيان، و أمرا ما مجهولا يعزله عنهم، فيسأله الدكتور عن بلده، فيعلو محياه
بوادر التحير و كآبة المنظر، و يشعر بأن الأرض كلها ضاقت عليه بما رحبت، فيجيب
بصوت خافت و متهدج، لا يكاد يخرج منه إلا بشق الأنفس، و كأن فرائصه ارتعشت لعظم
ما سئل عنه و قلبه بلغ الحناجر ليقف حجر عثرة في طريق الحروف العربية إلى
مخارجها الأجنبية وهو لا يريد أن يبوح بهذا السر الذي يعتبره من أعظم أسرار
الكون، و جلب له مشاكل كثيرة في مواقف لا حصر لها في الماضي، ولكن ملابسه ذات
الألوان الباهية و الزاهية التي تعبر بكل صدق عن خلفيته الثقافية الفسيفسائية
وسط ملابس زملائه ناصعة البياض و ملامح وجهه المغايرة عن الباقين في مظاهرهم و
ملامحهم الأنيقة و المهندمة و الرزينة، و نظراته الحائرة بعينيه المترعتان بما
تبدو شجونا تسبقه في نطق كلمة الحق، فيدرك حينه أنه لا عاصم اليوم من البوح
بهذا السر، فيقول خارقا الصمت الذي خيم على أجواء الفصل منذ لحظات قليلة "من
الهند" مع بعض التركيز على حرف الهاء ذات النبرة المرتفعة سعيا منه أن يرمي
وراء الكلمة "المشؤومة" في نظر الكثيرين بعض الثقل، عله ينقذه من هذا الموقف
غير المحسود عليه، فيتعلق بهذا الحرف تعلق الغارق في بحر لجي يغشاه موج من
فوقه، فيما لا تزال التعابير الغامضة التي اقتحمت إلى وجهه لحظة سماع السؤال و
التي يصعب تأويلها و لا يعلم تأويلها إلا الذي يعلم خائنة الأعين و ما تخفي
الصدور بادية على وجهه الشاحب، ثم تجده بعد أن تهدأ الأعاصير التي عصفت على
وجهه و أتت بما لا تشتهي السفن، و عادت الأمور إلى نصابها، و انحل الفصل فيما
لم ينحل اللغز و العقدة اللتان تقفان وراء حيرته حين وجه له السؤال، مع أنه
استطاع أن يقطع دابر السؤال بإجابته التي لم تدع مجالا لمزيد من الشكوك التي
اكتنفت حوله في بداية اليوم، تجده يسرع الخطى وهو يقطع أزقة الجامعة و ممراتها
التي تتسع للجميع سواه، واضعا عينيه موضع السجود، دون أن يلتفت ذات اليمين و
ذات الشمال، تجنبا - أو تهربا - مما تلاحقه من نظرات استغرابية - أو استنكارية
لصعوبة استيعاب و تصديق أحدهم ما يشاهده بأم عينيه - و كأن لسان حال أحدهم
يسأل: "هندي يدرس معنا؟" و ذلك نتيجة لهذا التناقض الصارخ بين ما طبع على وجهه
من ملامح و ما تتشبث بها أيديه من كتب دراسية، وهو عندئذ يحاول يائسا أن يلتمس
عذرا لمن يتبع نظرته الأولى على وجهه بنظرة ثانية على كتبه، بأن الناس أجناس، و
أن الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف و ما تناكر منها اختلف.
وهكذا
توشك خمس سنوات عزيزة على إكمال دورانها كلمح البصر، بين فرحة الأيام و عوادي
الدهر، بين فصول الربيع و الخريف و مواسم الأعاصير و الأمطار الرعدية، بخطى
حثيثة دوما دون ما توقف، تماما مثلما كان يسارع خطواته في ممرات الجامعة،
فائتلف خلالها ما تعارف، و اختلف ما تناكر، و وتلك سنة الكون منذ الخليقة، و
نحن كمخلوقين ليس أمامنا سوى الاستسلام لها طوعا أو كرها، ولذا حين ألتفت إلى
ورائي مجترا ذكرياتي طوال السنوات الخمس المنصرمة في أكناف الجامعة مستجمعا
فتات أفكاري، أرى أنها كانت في مجملها سنوات جميلة علمتني كيف أأتلف أكثر من
كيف أختلف، رغم كل ما صاحبتها من صعوبات و مشقات واجهتها كوني طالبا "هنديا"
يثير مظهري و ملامحي دائما استغراب الآخرين - طلبة و دكاترة و موظفين - أكثر من
كوني طالبا مغتربا، فتحولت المواقف و اللحظات العصيبة التي عشتها كلها إلى فصل
فريد من فصول الحياة نادرا ما يتلقاه إنسان في أي جامعة من جامعات العالم، و هي
التي علمتني كيف أواجه و وأتحدى و أباري الصعوبات، و كيف أبلي بلاء حسنا في
وجهها، و كيف أتكيف معها إذا اقتضى الأمر، و كيف أروض وحش الوحشة في بلاد
الغربة، و كيف أعزل الورود من الأشواك و أجتنب مسح الورود و وخز الأشواك، و أنا
أدرك أن الحياة ليست كلها مفروشة بالورود كما أنها ليست كلها مبذورة بالأشواك.
وحين أعيد
شريط ذكرياتي عن تلك الأيام التي
تتداول
بين الناس بكل حسرة و
حنين، لا بد لي من وقفة إجلال و إكبار لثلة من الدكاترة الذين كان لهم أعظم
الفضل و أعمق الأثر في صقل مواهبي و تشحيذ أفكاري و تكوين شخصيتي كطالب "هندي
" و مغترب يتطلع بكل لهفة وشوق إلى كلمة طيبة
تثلج
الصدور، و الكلمة الطيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت و فرعها في السماء، و هي حين
تؤتي أكلها تغذي معنوياته الهابطة التي تظل تتراوح مكانها حين تشتد عليه وطأة
الغربة، و يأتي في مقدمة هؤلاء الذين نقشت أسماؤهم
في ذاكرتي مطلية بالذهب الخالص و تظل فيها أبدا ما حييت، ذلكم الدكتور الكويتي
الذي أخذ بيدي و أنا أدخل إلى عالم الإعلام من أوسع أبوابه من عتبة مادة "مدخل
إلى علم الإعلام"، و كان من دأبه أن يترك في نهاية كل مقال أقدمه إياه مرة كل
أسبوعين تحت ما كان يطلق عليه "الخبرة" بعد عناء و إرهاق طويلين في إعداده و
أنا في بداية مشواري عبارات موجزة و لكنها تأخذ من القلب مأخذها
من قبيل "كتابة راقية" و "عمل ممتاز" وغيرهما، ثم قال لي وهو يرجع
لي "الخبرة" الثانية التي
كانت تدور محاورها حول دور وسائل الإعلام في تشكيل الصور النمطية الإيجابية و
السلبية مادحا إياي "أنا فخور بك"، فخامرني شعور بأنني امتلكت كل ما في الأرض
من أقصاها إلى أقصاها، كما طلب مني حصريا بعد تسليم "الخبرة" الثالثة أن أسلمه
نسخة إضافية من مقالاتي، و كان ذلك بمثابة أول وسام أحصل عليه و أنا لا أزال
أحبو في عالم الكتابة العربية حيث أخطئ حتى في التذكير و التأنيث و التعريف،
ناهيكم عن الصعوبة في إخراج الحروف من مخارجها الصحيحة عند النطق بها، فأدركت
بأن بمقدوري - وليس بميسوري بعد - أن أشق طريقا خاصا بي في
الكتابة
في اللغة العربية، مع
أنها طالما كانت عصية علي بعض الشيء نظرا لأنني حديث العهد
بها
خلافا للغتي الأم - اللغة المليبارية – التي اعتنيت بها قراءة و كتابة منذ
نعومة أظفاري أو اللغة الإنجليزية التي نلت منها حظا لا بأس به.
من بين
هؤلاء الذين لونوا مشواري الجامعية بألوان ساطعة، و أثروا على اهتماماتي و
صقلوا ملكاتي و بثوا في نفسي روح الثقة، ذلكم الدكتور الذي لقنني ألفباء
الترجمة، و التي تألفت منها الكلمة السرية لفتح مغارة كنزها الذي لا ينضب، و
لا أقدم على ترجمة خبر أو مقال لنشره على موقعي الالكتروني (بوابة الهند و
أخبار الهند) إلا و صورته حاضرة في ذهني، فيرشدني إلى أخطائي بقوة هذا الحضور،
فتظل بصماته واضحة على انجازاتي المتواضعة، و إن باعدت بيننا المسافات و تقطعت
السبل بعد الان.
و حين
أطوي صفحة ذكريات خمس سنوات
خلين لا بد لي من ذكر
موقف مؤثر آخر، و الذي ذكرته مفتخرا لزملائي غير مرة، وهو ما حدث لي في يوم
تكريم الدكتور الذي أصبح وزيرا للإعلام في منتصف الفصل الدراسي الثاني قبل
عامين بينما كان يدرسنا مادة أخلاقيات الإعلام، حيث وُجه لي كطالب في قسم
الإعلام دعوة لحضور حفل تكريم ذلكم
الدكتور، فكان الأمر لأول وهلة مدعاة لبالغ سروري كأي طالب يسر أن يرى أستاذه
يعتلي عرش الوزارة، و يستبدل حقيبته الأكاديمية الروتينية المليئة بالواجبات و
الإنذارات بحقيبة وزارية حافلة
بالإنجازات،
إلا أنني سرعان ما اكتشفت حين أمليت التفكير ما يحف الأمر من مغامرات لا بد لي
أن أخوض غمارها، و أنا لا أدري بعد إن كنت أخرج بعدها سالما معافا أم منكسرا
متنكس الرأس، وذلك حين تبادر إلى ذهني كابوس حراس الأمن الذين يروق
لبعضهم دائما أن يوقفني و أنا أدخل إلى مرفق من مرافق الجامعة موجها ذلك السؤال
التعيس الذي بات يقض مضجعي
مذ
أول يوم تخطيت أولى خطواتي في الجامعة حين يسألني أحدهم: صديق واين يروح؟؟ و
كأنني دخيل في الجامعة أحاول أن أتسلل إلى موقع حيوي فيها للقيام بعمل تخريبي
في وضح النهار أو تحت جنح الليل حينما يضيقون من ملامحي الهندية ذرعا، فسألت
نفسي مترددا: هل أحضر الحفل أم لا؟ و هل أضحي بكرامتي و شرفي في سبيل حفل ربما
لا يحمد عقباه بعدئذ؟ ثم تفتق إلى ذهني بعد وضع كافة الاحتمالات في الحسبان حل
كفيل لإنقاذي من هذه المعضلة: أشهر أمام كل من
تسول
له نفسه توقيفي رسالة الدعوة التي وجه إلى من قبل قسم الإعلام قبل أن يباغتني
بالسؤال الحرج. و هكذا حضرت الحفل و رأيت أحد زملائي المغتربين يدرس هو الآخر
في القسم قد سبقني إلى المكان بمعية زميل له، فتبوأت مقعدا
حسنا بجوارهما متابعا
أحداث الحفل، و بعد الانتهاء من إلقاء كلمات الترحيب و كلمة المحتفى به، بدأ
الحضور يتدافعون لتهنئة الدكتور والتقاط صور تذكارية معه، فوقفت مع زميلي نتفرج
المشهد، فشد ذلك انتباه الدكتور، فبادر بالقول مشيرا إلينا: هؤلاء ضيوف الكويت،
و قربنا إليه زلفى لنلتقط الصور التذكارية معه، أمام علية القوم الذين حضروا
الحفل، فكان ذلك موقفا لن أنساه.
و من بين
أولئك الدكاترة الذين تركوا في نفسي بالغ الأثر و خلدوا ذكراهم العطرة في
ذاكرتي، و لن أنساهم في دعواتي، ذلكم الدكتور الذي أبدى استعداده لمساعدتي في
شأن مواصلة الدراسات العليا دون أن أطلب منه ذلك، أو يعلم مني ذلك الطموح
الجامح الذي طالما اعتبرته من أضغاث أحلام ألهث وراءها، فلكم جميعا جزيل الشكر
و كل التقدير.
و هكذا
توشك خمس سنوات على إكمال دورانها، بانطواء المسافات إلى يوم الوداع الأخير
للجامعة الحبيبة التي أسرت قلبي بقوتها السحرية الخفية، و بجاذبيتها التي تفوق
جاذبية الأرض، و كم أتمنى ألا تنتهي هذه السنوات الجميلة، مع مواقفها و
تجاربها، و أبقى على حالي كطالب سرمدا، ولكن كل شيء عند الله بمقدار، و دوام
الحال من المحال،
فالسنوات كما هي الحال مع سحاب
الصيف لا تنتظر لأحد، وهي تمر مر السحاب، و لا أحد يدركها وهي تدركه لا محالة،
مهما حاول أن يفلت من قبضتها، فالأيام الخوالي مهما قلت عنها، ذكرياتها التي
تجول في سويداء قلبي
تظل عطرة رغم ما تخللتها من مواقف أحرجتني كثيرا، و عزلة طالما تقوقعت داخل
شرنقتها، وهي مما فرضتها على نفسي قبل أن أعلق أسبابها على شماعة الآخرين،
فالمواقف كلها تلوح اليوم في الأفق البعيد مواقف طريفة و ظريفة و لطيفة، طعمها
كطعم ثمرة Indian Gooseberry
الغنية
بالفوائد الصحية و التي تدخل في إنتاج أنواع عديدة و متنوعة من العقاقير الطبية
الطبيعية و تزخر بها ولايتنا الاستوائية الجميلة في الهند - كيرلا – بشكل خاص
أولها مرارة و آخرها حلاوة، ربما لن أحظى بتجاربها – بمرارتها و حلاوتها -
مستقبلا، وهي لم تتركني أودع هذا الصرح الأكاديمي خالي الوفاض...
فوداعا...
محمد عبد
الجليل عبد السلام
طالب في قسم
الإعلام - جامعة الكويت
أكتبوا إلينا آراءكم
وتعليقاتكم:
الآراء و التعليقات |