لا
شك أن التقنيات السردية على فعل الخيال
عند القارئ، النص الأدبي الذي يقرأ، يختلف
عن النص المسرحي الذي يشاهد على المسرح،
وعن النص السينمائي الذي يعرض على شاشة
السينما؛ نص القراءة يستفز الخيال
وينشطه، فهو يرسم الشخصيات، ويتصور
الأماكن، وطبيعة الأحداث، أما نص
المشاهدة فهو يحد من انطلاقات خيال
المتلقي : هذه هي الشخصية ، وهذا هو الحدث ،
وهذه هي المقولة أو الدلالة أو العبرة..
ولأن
علاء الدين رمضان كتب هاتين المسرحيتين
للعرض ، وليس لخيال القارئ ، فإن مناقشتنا
لهما ينبغي أن تحدد في إطار التوجه الذي
اختاره لهما ..
" سمكة ظامئة " اسم لمسرحيتين معاً من
تأليف علاء الدين رمضان ، فالمسرحية
الأولى ( المونودراما ) باسم الشخصية
الوحيدة فيها: "محمد عطاف"..
والمسرحية الثانية ، الشعرية ، " الخروج
إلى القلعة " ..
كلمات
الإهداء توضح أن محمد عطاف ليس اسما فنيا،
لكنه الاسم الحقيقي لبطل هذه المونودراما
التي تناقش قضايا السلطة والقهر والظروف
الاجتماعية والاقتصادية والغربة
والحنين، ولم يكن الكاتب في حاجة لأن يؤطر
تجربته بالواقعية، فلا تحمل للمتلقي معنى
المصادرة.. لكن الفنان يعمق من واقعية
الحدث في مفتتحه الذي يشير من خلاله إلى أن
محمد عطاف تجربة أكبر من أن تتقوقع ذات، أو
يعبر عنها هو؛ ثم تبين رسالة محمد عطاف إلى
الفنان عن تحريض بأن يكتب تجربته، وهي
تجربة انطلقت ـ كما قال عطاف في رسالته ـ
من أحلام عادية وجميلة، تدور حول الخبز
والطمأنينة، لتنتهي إلى إقامته في مستشفى
الأمراض النفسية، وما بين البداية
والنهاية تتخلق درامية قاسية ..
الفنان
يحدد المكان غرفة بمستشفى بنيكوم للأمراض
النفسية والعصبية بهولندا، فهو مكان
محدد، أما الزمان فهو أقرب إلى النثر
السردي الذي يعني بالنسبة للمخرج أن عليه
تجسيد التحليقات اللغوية، أو بلاغة
الأدب، في مشاهد بصرية وأحداث؛ والتحول
المكاني يبين في تعليمات الفنان ـ بداية ـ
لمخرج المونودراما.. فهي تتسم بالطابع
العربي الإسلامي في التكوينات والزخرفة،
وفي الموسيقا المغربية الشعبية على آلتي
العود والطنبورة، ثم تتداخل فيها موسيقا
الصخب الغربية، وتعلوا ضوضاء الحضارة
تلوثها السمعي ـ والتعبير للكاتب تأكيداً
لموقفه الرافض من تلك الحضارة المتمثلة ـ
على حد تعبيره ـ في انطلاق سيارات وهدير
ماكينات وأزيز طائرات وتشوش إذاعات
وغيرها ..
ولأن
محمد عطاف لم يفصح عن تفصيلات مأساته ،
وإنما اكتفى بإشارات وتلميحات ، فإن
الفنان يتصور الحدث ، يتخيله ، يحاول
التعبير عن مكنونات النفس ، والتنامي
الدرامي ، منذ اللحظات العادية ، إلى
لحظات المأساة ..
محمد
عطاف يحلم بصباحات متفتحة ، وبالانعتاق من
ربقة أحزان الوطن، فالهم ليس ذاتياً فحسب
، لكنه هم الذات مضفرا بهم الجماعة ،
مختلطا به ، متوحدا معه ..
ما
كنت أريد سوى أحلام عادية وجميلة ، كلها
تدور حول الخبث والطمأنينة ، ليس أكثر .
تلك طموحاتي ما كانت تحوجي للصعود إلى
الأرض المنخفضة . لو أني من غير العالم
الثالث لو أني لست ضعيفا يحلم ، من أبناء
الدول النامية على أذنيها لا يشغلها غير
الحلم"..
وفي
خلفية المشهد ، يتضح باعث مهم ، ولعلي
أعتبره الباعث الأهم، لأنه الحد الفاصل
بين الهجرة من الوطن والحنين إليه ،
التقدم والتخلف ، معالجة الواقع بمسكنات
وقتية ومحاولات مجاوزته بالعلم
والتكنولوجيا والأخذ بأسباب العصر . كان
محمد عطاف يجد في العلم خلاصاً لكل ما
تعنيه مليكة وطنه ، لكنه يعاني المؤامرات
الصغيرة والرفض والإحباط ، بالإضافة ـ كما
قلنا ـ إلى الظروف الأسرية القاسية "
كانت أملاً في أن اصبح من عتقاء العلم ،
أمر إلى الإنسانية من فوق قنطرة العلم ،
لكنهم تآمروا علي " ..
وكان
يقول عطاف في مونودراميته، فلم تكن
الأوضاع في مليكة وحدها هي الدافع لأن
يهاجر إلى الأرض المنخفضة ـ هولندا ـ لقد
هاجر بحثا عن الحاضر الأفضل لأسرته ، وله ،
والمستقبل الأسعد لأبنائه وحفدته ، ثمة
الأم المسكينة التي تنتظر عونه المادي،
" حتى تعبر بالعائلة إلى شط النور
الخافت، تخرجهم من قبو الظلمات "..، و
" أب ينتظر الحوالة التالية ليصلح بها
سقف البيت الذي يبكي صقيع أهله في الشتاء ،
وأخت تنتظر واقعاً رفيعاً يمد إليها يده
بملابس أنيقة في العيد القادم".
الظروف
المادية القاسية إذن هي الدافع لأن يبدأ
محمد عطاف رحلة الأمل والمعاناة . "
الشوك في العالم الثالث ، وسراب الهدف
أيضاً . أما في الأرض المنخفضة ، فالزهر
بلا شوك ، والمتعة دانية تهصرها الرغبة
" . ومحمد عطاف ليس شخصا عاديا إنه شاعر
له روحه الرقيقة،ومشاعره وأحاسيسه
الجياشة ..
لكن
ما يحصل عليه العربي في بلده لا يعينه على
العمل في بلد الغربة . إن عليه أن يبدأ
التعلم من جديد ..
ويزداد
الخرق تمزقاً و اتساعاً ، حين يقرر محمد
عطاف أن يعود إلى وطنه، فترفض عائلته التي
تحتاج إلى عونه المادي. تهمل التعرف إلى
معاناته مقابلاً لمعاناتها وحاجتها إلى
ما يتيح لها مجاوزة الظروف المادية
القاسية ..
النظرة
الاستشرافية ، لا تجد الحل في مجرد التعرف
إلى جوانب التخلف في حياتنا ، ولا إلى
محاولة التغيير والإضافة والتطوير . بل
إنها تجد تحقيق ذلك أملاً صعب التحقيق في
المستقبل " وحتى تنير ، يمضي جيلنا
منطفئاً " . نظرة ـ كما ترى ـ لا تخلو من
تشاؤم ، لكنها لا تخلو من موضوعية كذلك .
هذه هي صورة الواقع العربي بكل أبعاده ،
ببانوراميته التي ترفض ألوان الوهم
وظلاله .. لكن الفنان يهبنا الأمل ـ في
نهاية مونودراميته ـ بأن يرفض عطاف كل
الضغوط ، سواء من أسرته ، أم من ظروف بلده ،
أم من رفض المجتمع الذي يقيم فيه .. يرفض
ذلك كله ويقرر العودة إلى الوطن .
و هو
ليس وطنا محدداً ، إنه أي موقع في خارطة
الوطن العربي . قد يكون المغرب ، تعليمات
البداية تشي بذلك ـ وقد يكون مصر ، أو أي
بلد عربي آخر ، لكن الهم العربي الواحد
يتخلل الصوت الذي يخاطب به عطاف نفسه ،
وعائلته ، وأسرته ، وكل الدنيا ..
طبعي
أن النص المسرحي المكتوب ـ كما أشرنا ـ لا
يتحقق وجوده إلا في نفس القارئ . في وعيه
وإدراكه وخياله..
وإذا
كان تعدد الأصوات يعمق من درامية الحدث ،
باختلاف الآراء ووجهات النظر وتباين
الروايات، فإن مونودراما علاء الدين
رمضان جاوزت الاستاتيكية بتحول الصوت إلى
شخصية مقابلة، وبتناوب لمشاعل في نفس
البطل، كالإحساس بالمطاردة ، والغربة في
المجتمع الأجنبي، فضلاً عن اتجاه البطل
بحواره إلى مليكة، بلده الذي قدم منه إلى
الأرض المنخفضة..
إن
المونودراما تعتمد على محاولة استبطان
الشخصية ، شخصية محمد عطاف ، بتركها تتحدث
مع صوتها ، مع نفسها ، وتبين لنا عما يدور
داخل النفس الإنسانية من خلال الوعي
الباطن . ولأن المونودراما تعتمد على
الصوت الواحد في الدرجة الأولى ، فقد أفاد
الفنان من تداخل الفنون، كتداعي الذكريات
والفلاش باك والتقطيع وغيرها من تقنيات
الوسائط الأدبية المختلفة . بل إن الشخصية
المحاورة ، المقابلة لشخصية محمد عطاف هي
محمد عطاف نفسه ، أو صوت محمد عطاف ..
دينامية
الحوار ـ أو هذا هو المفروض ـ تبين في
تباين الآراء ، وبين الشخصية وصوتها ، وإن
ذوت الدينامية في بعض المواقف بتحول الرأي
الواحد، رأي الشخصية وصوتها ، إلى ما يشبه
التقطيع السردي ، ليعبر عن حالة نفسية
واحدة ..
وفيما
عدا بعض المفردات والعبارات الكليشيهية،
فإن الحوار يتسم بالبساطة والصدق وعدم
الافتعال، قيمة الحوار الدرامي في أنه
يبدو مما نتبادله في أحاديثنا، مفردات
حواراتنا العامية وتعبيراتها ، لكنها ـ في
الحقيقة ـ ليست كذلك، أخضعها الفنان
للاختيار والصقل ، وإن لم يسلبها إيهام
التلقائية ..
أما
" الخروج إلى القلعة " فهي مسرحية
شعرية في خمسة مشاهد ، ثمة قصة حب ، وقلعة
تزخر بالمؤامرات والفتن والتحدي ،
والسلطان ، والعسكر ، والجواري ، والأسوار
، وقضبان السجن .. ، وجميعها مفردات تصلح
قواماً لمسرحية يتخللها الصراع من ألفها
إلى يائها ، لكن السكونية تتخلل مسرحية
علاء الدين رمضان ، نتيجة لغلبة الأسطر
الشعرية من حيث هي شعر ، على الحوار
المسرحي من حيث ضرورته للمشهد المسرحي
وللدراما المسرحية .
بالإضافة
إلى الحركة، فإن الحوار هو البعد الأهم في
الإبداع المسرحي، إنه العنصر الفاعل في
صياغة الدراما، قد يقلل الروائي الحوار في
روايته، قد يستغني عنه تماماً، لكن
المسرحية تقوم على الحوار بصورة مطلقة،
إنه هو الذي يقدم الشخصيات والمكان
والأحداث والتصاعد الدرامي، وكل ما يصنع
المسرحية .
الحوار
في المسرحية لا يهدف إلى حكاية المحادثة ،
وإنما هدفه هو توصيل الجوهر . . وكما يقول
هرمان هولد فإن غرض الحوار ليس هو أن يحكي
المحادثة حكاية طبيعية ، بل أن يقدم في ثوب
المحادثة ما لا يوجد في المحادثة ، فيكون
مسلياً حيث المحادثة مملة ، مقتصداً حيث
المحادثة مضيعة ، بيِّناً واضحاً حيث
المحادثة متمتمة أو غامضة ،والطريقة هي
بالطبع طريقة كل فن : طريقة التعميق
بالنظام والترتيب الذين يقومان على
الاختيار .
وإذا
كانت الرواية تعتمد على السرد والحوار
والتقنية . فإن المسرحية تعتمد على الحوار
والحركة ، وإن قام العديد من المسرحيات
على الحركة الصامتة ( البانتومايم ) .
في
" الخروج إلى القلعة " اجتذب
الشعر علاء الدين رمضان بأكثر مما اجتذبته
الدراما . اجتذبته المفردة والموسيقا
وتواصل الأسطر الشعرية ، بل إن الحوار
تحول ـ في بعض المواقف ـ إلى متتاليات من
قصائد الشعر ، بما قلل من الدينامية التي
يفترض أنها تتحقق في العمل الدرامي ..
أثق
في موهبة علاء الدين رمضان ، وأراهن عليها
، وأثق ـ في الوقت نفسه ـ أن أعماله
المسرحية التالية ـ لا بد أن تكون له أعمال
تالية ـ ستزاوج بين الشعر والمسرح بحيث
تشكل إضافة ـ مطلوبة ـ إلى مسرحنا الشعري
المعاصر .
محمد
جبريل
الكاتب
الروائي العربي الكبير