1- ولادة
الليلة باردة ٌ
جدا,الرياحُ تكادُ
تـُقطـِّـعُ رؤوسَ
النخيل ِ في القريةِ..... كلّ
ُالبيوتِ المبنية من
القصبِ والبرديّ ِ
والمفروشة بالحصران ِ ,
يطرقُ سقوفـَها المطرُ
فتـُدْخِلـَهُ مباشرة ً
الى باطنِها.... إنها بيوتُ
القصبِ ! كريمة ٌ حدّ
السذاجة ِ .
الليلة ُ مع
قساوةِ طقسِها و رداءةِ
المحيطِ , نزلتُ ضيفا ً
عزيزا عليها .. ليلة ُ
الأحدِ من عام ِ 1969 في
الثالث والعشرين من
اكتوبر , وقد سمتني امّي
وحيدا لأن ابي ولدني ليلة
َالأحد ! .
خرجتُ الآن من
عالم ِ أ ُمّي الى عالم ِ
الدنيا ـ أصرُخُ ـ كنتُ و
أنا في بطن ِ أمي ا ُميِّزُ
بين صوتِ ابي وأصواتِ
إخواني وكنتُ
أعرفـُهـُم . وكان لأبي
كلبٌ كبيرٌ على ما يبدو من
عُوائهِ.. كنتُ أرغبُ
بالخروج ِ لرؤيةِ أهلي
ولكنـي أخـافُ من الكلبِ.
وعند الولادةِ كنتُ أبكي
خوفا من الكلبِ .
كنتُُُ جائعا جدا
و أ ُمي تـُحاولُ إرضاعي
ولكني أبيتُ الرضاعة ....
إنّ جوعي أكبرُ من أن
تسُدّ َهُ جُرُعاتُ
حليبِ أ ُمّي .أشرتُ لها
على طبق ٍ من الرز ِّ و
رغيفِ خبْز ٍ و سمكةٍ
مشويّةٍ على الجمرِ و
أشرتُ لها على إبريق شاي .
القماط ُ هو الكارثة ُ
التي ا ُعاني منها الآن ...
لا أ ُحِبّ ُ القماط َ ... لا
يدعُني القماط ُ أ ُحرِّ
كُ ساكنا ً.... بهذا
القمـاطِ يريدون َ أهلي
أن يُعوِّدوني على
تقبّـُـل ِ الذلةِ .. و
رغمَ أنفي قيّدَتـْـني أ
ُمّي ولا أحدَ سواها!.
سألها أحدُ
الأقاربِ .. لماذا
تلـُفـِّينَ هذا
المولودَ الذي
يُشـْبـِهُ الفأرَ بهذا
القماطِ .. ضعيهِ في
المزبلةِ أحسن . قالت : لا
هكذا أفضل .. أنا أعرفُ كيف
أ ُربي أولادي .. هكذا
يسمعُ الكلامَ وينامُ
طويلا ً .. والحقيقة ُ أنا
سوف لن أسمـعَ الكلامَ و
لن أنامَ دقيقة ً, وسوفَ
تكونُ حركاتي أكثرَ مما
كانت عليهِ في عهدِ ما
قبلَ القِماطِ .جعلتْ مني
أ ُمي بقيودِها فضوليا ً أ
ُفسِّرُ كلّ َ الحركاتِ
من حولي .. وفي الليلةِ
الأربعين َ من ولادتي جاء
أبي و أمسكَ بأمي
فظننتـُهُ يريدُ
قتلـَها فصرختُ فذ ُعِرا
... ثم عاد يُمسِكـُها
فصرختُ .. وتكرر الأمرُ
مرارا ً ... فخـرج َ أبي
يتمتم ُ : اللعنة ُ عليك يا
ولد ... سأنحرفُ بسببـِك...
لقد انحرف الرجلُ بسببي .
أبي كان فلاحا
وصيادا ماهرا ً .. لديهِ
بندُ قِيــة ُ صيدِ طيور ٍ
وآلة ُ صيدِ سَمَكٍ ...
قرّرَ أبي أن يصطحبَني
الى الصيـدِ معه بقماطي .
يريدُ أنْ يُعلـِّـمني
الصيدَ والرماية َ من
الآن و كانت أصغرُ
الأسماكِ التي يصطادُها
أطولَ مني. وقانـونُ
القائدِ أبي هو ... العينُ
بلا عين ٍ و السن ّ ُبلا
سنّ ٍ والبادئ ُ أعدلُ ..
ومن لم يكن صيادا فليسَ
مني.
حقيقتي
وحيد خيون
2- تأريخ
لستُ أدري ولا
أعرفُُ جيدا تأريخَ
القريةِ التي أعيشُ فيها
... أشاهدُ النخيل َ ... أظنّ أن
هذه الأشجارَ وُ لِدَتْ
معي ...
أظنّ أن الطيورَ
التي تهربُ مني تبغضـُني ..
وهذا مصدرُ ألمي ...
الطيورُ في ديارِنا وحتى
الأليفة ُ منها وحشيّة ٌ
وخائفة ٌ و مرعوبة , ليست
من الناس فقط , إنما
من التمثال ِ المصنوع ِ
على شكل ِ إنسان ٍ .. هناك
يُرعبون الطيورَ بتمثال
ِ إنسان ٍ .
الأنسانُ جبارٌ
حدّ الشركِ باللهِ في
أوطانِنا .. الإنسانُ هناك
لا تعرفهُ حتى تتفحّـصَ
بطاقتـَهُ , فالأوراق ُ
أصدقُ من و جوهِنا بكثيرٍ
... يقولون أنّ عمرَ
قريتِنـا
ثلاثة ُ آلافِ
سنةٍ ... وما استفدتُ أنا و
أصحابي من هذا العمرِ
الطويل ِ. ما ذا أخذنا من
الآثارِ سوى الكآبةِ ؟
قريتي التي أعيش
فيها ( كرمة بني سعيد ) هي
التي وُلدت ُ فيها .. وكانت
طفولتي مناسبة ً رائعة ً
احتـــفلت بهــا
الفايروساتُ كلـّـُـها
جميعا .. حيثُ وَجَدَتْ لها
مضيفا ً دافئا ً .
كانت علاقتي مع
الجدران ِ سيئة ً للغايةِ
.. وكانت الجدرانُ تسمعُ
صوتَ سقوطِ الندى في
أوطانِنا . وكنتُ
لبقــــا ًجدا فكيف
يكونُ لي في الدار أمنُ .
الفئرانُ هي المخلوقُ
الوحيدُ الذي يعيشَُ في أوطانِنا.
حقيقتي
وحيد خيون
3- ذاكرة
الحقولُ خضراءُ
ورائحة ُ المزروعاتِ
تملأ ُ الآفاقَ... كانت
رائحة ُ الزرع ِ طيبة ً و
بالرغم ِ من ذلك فأشم ّ ُ
رائحة ً بتِنـَة ً.
أتساء لُ
دائما ً عن مصدرِ تلك
النُـتـْـنةِ ... وإذا
تساءلتُ قيلَ : لا تسألوا
عن أشياءَ إنْ تـُبدَ لكم
تـَسُـأ كـُم .. وعندما
كبـرتُ عرفتُ مصدرَها
فتركتُ الأرضَ و مَـن
عليها و خرجتُ .
الأبقارُ كانت
حزينة ً ومضطربة ًتشعرُ
بالأبتزازِ .... الفلاحونَ
يحلبونَها و
يحرثونَ أراضيَهُم بها و
أحياناً يركبونَها
ويحملونَ عليها أوزارهم
و يُحَمِّـلونـَها
وزرَهم فيضربوها ضربا
قاسياً أو يذبحونَها ..
الأبقارُ محسودة ٌ في
أوطانِنا فالحرية ُ التي
تتمتعُ بها في مراعيها
التي جففوها أخيرا حرية ٌ
لا نظيرَ لها هناكَ ... في
الغابةِ تتيحُ
الحيواناتُ الحرياتِ
لأمثالِها .. و لا لومَ على
الناس ِ .... سمعتُ جاري
يُصلـِّـي قائلا ً: يا
ألله ماذا لو خلقتـَني
بقرة ً ؟ والبقرة َ قائلة ً
: ماذا لو خلقتني
بشرا ً و للأثنين ِ حـقّ ٌ.
كانت الحياة ُ
التي نعيشـُها مفروضة ً
علينا والناسُ أصنافُ
شتى , سباعٌ وذئابٌ وكلابٌ
... و ملائكة ٌوقليلٌ ما هم ..
أتذكـّرُ الآن كيفَ
ذهبتُ أوّلَ يوم ٍ الى
المدرسةِ ... كنا ندرسُ تحت
الأشجارِ إذ لا توجدُ في
قريتِنا مدرسة و لا
كهرباء َ و لا ماءَ
مُصَفـّى ... نعم .. نعم .. لقد
سألتُ أبي لماذا نحن بلا
مدرسةٍ فقالَ لي أسكتْ لا
تفـْضـَحْـنا أمامَ
الخلق ِ , فالقائدُ مدرسة ..
قلتُ والكهرباءُ قالَ :
القائدُ نور... قلتُ
والماءُ يا أبي فقال ْ :
إذا كـبرتَ يا بُـنـَي
إشربْ دمَ القائد .
حقيقتي
وحيد خيون
4- حُب
كانت
الأيامُ تلك جميلة ً
للغايةِ .. علمونا لغة
َالصقورِ ولغة َ العصافير ِ
وعلمونا لغة َ الكلابِ
لنفهمَ ما يقولون ..
وتعلمتُ لغة َ الحبِّ
عبثا ً واجتهاداً . كنتُ
أحبّ الفتاة وأنا في
الثامنةِ وأهيمُ بها
حبّـاً وهل أجدُ أحداً
ألذ ّ َ من فتاةٍ في تلك
الغابةِ كي أ ُحِبّهُ؟.
أحببتُ نادية ... و
كان عمري وقتئذٍ
ثمانية ... الحبّ ُ في
محيطِـنا حياء ٌ و خرسٌ ..
الحياءُ القاتلُ بنى
جدارا ً طويـلا
وعريضا بيننا ..
كنتُ أ ُكلـِّـمُ
الفتياتِ جميعاً إلا هي ..
و كانت تـُكلـِّـم
الموتى و لا
تـُكـلـّّـمُني .. أليس في
هذا دليلٌ قاطـعٌ على
حبِّها لي.
الحبّ ُ عندنا
بطولة .. وكنتُ دائما أ
ُحاولُ أن أضربَ لها
مثالا عن بطولتي , وقد وقعَ
ضحية َ حبي أطفالٌ
كثيرونَ .. كنتُ أضربُ بهم
الحائط َ لكي تبتسِمَ
نادية ... كنتُ
أتذكرُ ما فعلهُ عنترة ٌ
من أجل ِ عبلة ٍ و قيسٌ من
أجل ِ ليلى و ما فعلهُ أبي
من أجل ِ أ ُمّي ... أنا في
منتهى الأسفِ على ذلك
الآن.
حقيقتي
وحيد
خيون
5- الديك
في قريتِنا تضِجّ
ُ الديكة ُ فجرا ً ...
تقولُ أ ُمي :
الديكة ُ تعبدُ الله َ
سبحانهُ و تعالى في هذه
الساعاتِ ... وعلى هذا
القياس ِ فالبلبلُ أكثرُ
المخلوقاتِ تديّـُـنا ً
في قريتِنا
سألتُ أبي مرة ً ..
إذا كان الديكُ يُصلـّي و
يعبدُ الله َ فما لك لا
تـُصلـِّي و لا تعبدُ
الله ؟
فضحك قائلا ً : مَن
قال لك هذا يا ولد ؟ قلتُ :
العقلاءُ قالوا يا أبي .قال
: بل الحمقى هكذا يظنون يا
ولد.. إنهم يكذبون ..الحقيقة
ُ أنه يُغـني .. و هَبْ أنه
يصلـّي فهل تريدني ان
أقتدي بالديك إن شاء الله
؟
و قام أبي غاضبا و
ذبح الديكَ ... و قال ساخرا :
لو كان يُصلي لنجا من
سكـّينتي .. فقلتُ : لو كنتَ
أنتَ تـُصلي لـَنـَجا
منك .... فضربني أبي برأس ِ
الديك .
حقيقتي
.............. وحيد خيون
6- طفولة
توترتُ
جدا وانا استرجعُ
ذكرياتِ الطفولةِ ,
توترتُ الى حد ِّ الطفولة
...
لم أكن أتذكرُ
جيدا انني كنتُ طفلا ً ..
لقد وُ لِدنا رجالا ً و لا
أحدَ يلومُنا الآن لو
أردنا أن نعودَ أطفالا ً ...
كانت الطرقُ
التـُرابية ُالضيقة ُ
تتسرّبُ بين أشجارِ
النخيل ِ والسّدرِ
والصفصافِ .. والنهرُ كان
كبيرا ً و عظيما ً .. و
أمواجهُ كانت تداعبُ
الطيورَ و تزعجُ
الأسماكَ الكبيرة .ويتفرّعُ
من النهرِ الكبيرِ
أنهارُ صغيرة ٌ يجري
ماؤها تِباعاً إلى
الأهوارِ ...
الصيادونَ
يحتفلونَ في الأهوارِ
حتى الصباح ِ حيثُ تضجّ
الحيواناتُ قاصدة ً
مراعيها .. و ينام ُ
الصيادون َ .. تاركين
حيواناتهم ليقودَها
حمارٌ بل حماران .
تقول أمي : كلّ
ُالقرى المجاورةِ
نصّبوا حميرَهم قادة ً
على حيواناتِهم ..
فالصيادون بعيدون عنا و
يقضونَ أوقاتِهم على
الماءِ ... و كنتُ أفكرُ
طويلا بكلامِ امي
وأحتارُ حقا بأمرِ
الحمارِ ...
قالت لي أ مي : هذا
الحمارُ رغم غبائـِـهِ
يصلحُ لقيادتِكَ يا ذكي ,
فهو شجاع ! قلتُ هل هو أشجع
ُ من أبي؟ قالت : لا ,هو و
أبوك بنفس ِ الشجاعةِ
ولكنّ هذا الحمارَ محظوظ
ٌ .
7-
الطنطل
حين يولد
الطفلُ منا يُحاولُ
أبواهُ شلّ تحركاتِهِ
بالترهيبِ فاخترعوا له ُ(الطنطل)
.. فاذا اهمّ الطفلُ
بالخروج ِ من المنزل ِ
نادوهُ أنِْ جاءكَ
الطنطلُ .. فيفرّ الطفلُ
مذعورا ليرمي نفسه
بأحضان ِ الطنطل أبيه .
وإذا تأخرَ عن النوم ِ
قالوا لهُ : نمْ وإلا نصيحُ
للطنطل. فينامُ ليرى
الطنطلَ في أحلامهِ
عفريتا غبيا مُذهلا
أطولَ مما تخيّلهُ
الطفلُ وهم يُلقونَهُ
على مَسامِعِهِ , فيصحو
مرعوبا ًباكيا فتناديهِ
أمّهُ من وراء حجاب ٍ , نمْ
وإلا أصيحُ للطنطل.
وسمعنا
الكثير الكثيرَ مما لو لا
أنْ منّ اللهُ علينا
لأصبحنا الآنَ في عدادِ
المضطربينَ .. تمرّنتْ
أرواحُنا صغاراً على
أثقال ِ الكبار وعلى تحمل
ِ الواقع ِ الذي يفرضهُ
الكبارُ علينا .. كم يشبهُ
حالُنا ونحنُ نـُذلّ
أطفالا- حالَ السلاطين ِ
الآنَ منْ الدولةِ
الباغيةِ أمريكا فهي
الطنطلُ الآن الذي
ترتجفُ السلاطينُ منه
وهي في الحقيقةِ أسطورة
والفرق بين أولائك
الاطفال وهؤلاء
السلاطين ِ .. أنّ ألاطفالَ
يعرفون حقيقة َ الطنطل ِ
عندما يُصبحونَ رجالا،
والسلاطينُ يعرفونَها
بعدما يعودونَ أطفالا.
|